وطنا اليوم:جلسة عائلية يتسيدها الهدوء، بإنصات جميع أفراد العائلة، لمتابعة حلقات مسلسل أردني قديم “أم الكروم”، بعد أن انقضى على بثه ما يزيد على ربع قرن.. باتت العديد من الأسر تبحث عن تلك التفاصيل الغائبة، في “الدكان، الحارة، الفزعة”، وتحاول أن تعيش تلك اللحظات بحب وحنين.
وعلى الرغم من التطور التكنولوجي الذي طال كل تفاصيل الحياة، إلا أن تلك التكنولوجيا سخرها الكثيرون لأن تعيدهم إلى الماضي، وذلك بالعودة لتلك الحلقات عبر “يوتيوب” وربط الهاتف الحديث بشاشة التلفاز، ومشاهدة المسلسل بكل حلقاته مع كل أفراد الأسرة، على أمل الابتعاد عن كل ما هو مختلف ومكرر وأحياناً “مبتذل” وغير عائلي، كما يراه البعض.
ومع مرور الوقت وظهور آلاف المسلسلات والأفلام التي يتم إنتاجها سنوياً بملايين الدولارات، بات القديم له رونقه، يسمو في نفوس متابعيه القدامى، الذين يحاولون أن يشجعوا أبناءهم وإخوتهم الصغار على مشاهدة هذه المسلسلات، التي تحمل في مضمونها هدفا وقصة وعبرة، وأحيانا كثيرة يكون الحضور لمجرد الاستمتاع بالمشاهد القديمة المتعلقة بالأماكن والمجتمع “القديم”.
والعودة لمتابعة المسلسلات القديمة أمست ظاهرة في الكثير من الدول، ولهذا ظهرت قنوات فضائية عدة مخصصة فقط لعرض المسلسلات القديمة التي مرّ على إنتاجها عشرات السنين، ولكن المفاجأة كانت وجود متابعات تجازوت ملايين المشاهدات، وهناك حلقات يتم تكرار حضورها، سواء عبر القنوات الفضائية، أو من خلال “يوتيوب”، ما دفع قنوات فضائية “رسمية” عدة، إلى تخصيص ساعة يومياً لعرض حلقات مسلسل قديم، يناسب وقت العائلة.
تتحدث عبير الكايد، التي تجد نفسها بين الحين والآخر تبحث عن حلقات “وجه الزمان” وهو مسلسل أردني قديم، كانت قد شاهدته للمرة الأولى وهي طالبة في المدرسة، ولكنها الآن ترى فيه أجمل المسلسلات، وتستذكر الجلسة العائلية الكبيرة “لعائلتها الممتدة” عند تجمعها لمشاهدة حلقات المسلسل، التي يتبعها حوار ومناقشة للأحداث بعد انتهاء عرض الحلقة.
وتقول الكايد، إنها ما تزال تفضل حضور المسلسلات القديمة، خاصة وأن الجديد منها، رغم حداثة الإنتاج والتطور والإخراج المميز، يخلو من التفاصيل العميقة والأحداث التي تشبه حياة الأسرة العربية المتقاربة في العادات والسلوك والمجتمع المحافظ.
أما سعاد إبراهيم، فتقول إنها تفضل مشاهدة المسلسلات عبر شاشة التلفاز، محاولةً بذلك استعادة بعض من ذكرياتها القديمة، وتلك اللحظات التي عاشتها في متابعة تلك الأحداث مرة أخرى، عدا عن أنها تجد في الأحداث متعة كبيرة وتقاربا كبيرا في التفاصيل الجميلة، وهي الآن تتابع حلقات مسلسل “ضمير أبلة حكمت”، الذي يبث على إحدى القنوات المصرية، وهذا يدل على أن الجمهور ليس فقط في المجتمع الأردني يبحث عن القديم، وإنما في غالبية الدول التي كانت سباقة في إنتاج أعظم المسلسلات وبأجواء متعددة.
“أم الكروم” هو أحد أكثر المسلسلات الأردنية التي استوقفت الجمهور الأردني على مدار عقود، وما يزال مدار حديث الكثيرين عند طرح قضايا وتطورات المسلسلات الأردنية، التي كان لها حضور قوي على شاشات التلفاز العربية، سواء بالمسلسلات التاريخية أو البدوية أو المحلية القروية، حيث تناول المسلسل قضايا التطور العمراني والاجتماعي التي مرت بها المدن والقرى الأردنية، لذا، كان وما يزال محط أنظار العديد من المتابعين.
وحول ظاهرة العودة للمسلسلات القديمة، يقول مؤلف “أم الكروم”، والعديد من المسلسلات الأردنية التي تحاكي تفاصيل واقع الحياة الاجتماعية الأردنية، الدكتور مخلد الزيودين “العقل المجتمعي الأردني بشكل عام ميال الى استدعاء الماضي بوصفه ماضيا أجمل في ظل توالي خيبات الحاضر وعدم مصداقية الوعود، لذلك نجد الأردنيين يرددون عبارة (سقى الله أيام زمان)! رغم قسوة ظروف الحياة في تلك الفترة”.
ويضيف على الرغم من تطور وسائل الإنتاج ورفاهية الحياة في الزمن الحاضر، فإن ذلك لم يمنع الناس من استحضار تلك المسلسلات، من خلال الاستفادة من التطور التكنولوجي كذلك ووجود شبكة الإنترنت، التي أتاحت هذا الأمر؛ حيث يرى الزيودي أن يقين الناس بأن صعوبة عودة تلك الأيام ببساطتها وتفاصيلها، في وقت يصعب تحقيقه في عالم الواقع، فإنهم يهربون الى عالم الدراما “المُتخيل” الذي قدم الماضي -الواقع المعاش آنذاك- بمصداقية عالية بعيداً عن الزيف ومحاولة تجميل القبيح.
وعندما يعيدون مشاهدة مسلسل “قرية بلا سقوف” أو “شمس الأغوار”، على سبيل المثال، كما يوضح الزيودي، الذي مضى على تقديمهما ما يزيد على أربعة عقود، فهم يستدعون بذلك قيم وتقاليد البادية والريف الأردني التي تراجعت حد التلاشي في الزمن الحاضر.
اللافت للنظر، وفق الزيودي، أن هنالك أعمالا بعينها أصبحت “مطلبا جماهيريا” يتم إعادة بثها على مدار العام حتى من قبل مؤسسة الإذاعة والتلفزيون والمحطات الخاصة و”يوتيوب”، مثل “أم الكروم”، هذا المسلسل ربما يجيب عن أسئلة الأردنيين والأجيال المتعاقبة المتعلقة بالهوية الوطنية والأخطار التي تهددها والتي أصبحت قضية رأي عام.
في علم النفس، هناك العديد من الدراسات التي تناولت ظاهرة التذكر واستحضار الماضي بتفاصيله الكثيرة، التي تعد الفنون والأفلام والمسلسلات جزءًا منها، كأحد أنواع المشاعر النفسية المرتبطة بالإنسان، التي يطلق عليها علمياً “النوستالجيا”.
و”النوستالجيا” هي “مصطلح يستخدم لوصف الحنين إلى الماضي وحب شديد للعصور الماضية بشخصياتها وأحداثها؛ حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة سري في لندن العام 2017، أن هذه الحالة من الحنين والتذكر لها فوائد صحية رغم ألم العاطفة الذي يتسبب به الحنين إلى الماضي، ومن أبرزها أنه يشحن الدماغ بطاقة إيجابية بسبب إثارة العواطف بشدة، والشعور بالانتماء والرضا النفسي، وإمداد الفرد بالشعور بالأمان والراحة النفسية، كما في رياضة التأمل أو اليوغا”.
وهنا يشير الزيودي إلى أن ما يطلق عليهم الآن “جيل القرن الحادي والعشرون”، جيل الأبناء والأحفاد يجلس يشاهد ويتساءل باستغراب “هل كان هذا واقع الآباء والأجداد؟”، ليقارن هذا الجيل ذلك بما يعلن عنه من أعمال تدعي طرح قضايا مجتمعية معاصرة تشوه صورة الإنسان الأردني الذي لم ينسلخ عن ماضيه وحاضره ومستقبله المبني على أحلامه المشروعة، وهناك مجموعة من المسلسلات التي أثارت الجدل في المجتمع الأردني نتيجة هذه المقارنة التي أظهرت اختلاف بعض الحديث عن مجتمعنا وقيمه وطباع أفراده المتوارثة رغم كل التحديثات.
اليوم، وفي ظل تكرار المضامين وسطحية معالجتها من خلال ما يقدم من أعمال درامية التي يتولى إنتاجها القطاع الخاص، محلياً، والذي يخضع لشروط العرض والطلب والربح وخصوصية ما تنتجه الدراما العربية المعبرة عن مجتمعاتها بشكل عام، وغياب الإنتاج الرسمي من قبل مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأردني بوصفه مؤسسة حكومية كانت بمثابة ضمير ووجدان الأردنيين في السابق، أيام الزمن الجميل، هذه الأسباب، كما يراها الزيودي، باتت محركا للمجتمع الأردني المشاهد للعودة لاستدعاء الماضي الجميل مرة تلو الأخرى دون ملل