وطنا اليوم:قالت صحيفة “هآرتس” إن باحثين أثريين إسرائيليين قد استغلا انحسار البحر الميت جراء الجفاف من أجل القيام بمسح ميداني واسع بحثا عن كنوز أثرية أفضت لاكتشاف مراسٍ ومرافئ تاريخية وسفن قديمة وحطام طائرة حربية أردنية.
ويقول الباحث الأثري الإسرائيلي، الدكتور غدعون هداس، إنه قام عام 2003 بجولة في سواحل البحر الميت برفقة زوجته، فتنبها لظهور بعض الأشياء نتيجة تبخر البحر وانحساره، منها مرساة معدنية من الفترة الرومانية بحالة ممتازة رغم تغطيتها بغلاف من الأملاح. وعن ذلك يقول: “بدت المرساة كرأس بصل عملاق زنته 600 كيلوغرام وهي المرساة الأقدم التي اكتشفت في البلاد حتى الآن، وتعود للقرن السابع الميلادي. وقد سبق هذا الاكتشاف بـ400 سنة عن الشهادة الأثرية الأولى حول النشاط البحري في البحر الميت مما دفعني للشروع في دراسة واسعة برعاية جامعة حيفا بين 2005 و2010”. موضحا أن الدراسة شملت مسحا ميدانيا من المنطقة التي يصب فيها البحر الميت بالقرب من مدينة أريحا إلى وادي “تساليم” في جنوب البحر الميت على بعد 80 كيلومتر، تم التجوال فيها سيرا على الأقدام طيلة أسبوعين، هو والباحث الأثري دكتور أساف أورون من جامعة حيفا بحثا عما يتكشف نتيجة انحسار المياه والتصحر، كالأشياء التي سقطت في البحر في أزمان غابرة.
ويوضح أن هذا الشريط الساحلي كان حتى قبل عقود قليلة مغمورا بالمياه، ولذا فإن “الجولة البرية هذه هي نوع من الغطس بلا أدوات غطس”. وقد وجد الباحثان عدة مراسٍ وقطع نقدية وأوانٍ فخارية وغيرها من الأشياء التي تروي قصة الملاحة داخل البحر الميت، وذلك رغم أن المشي في هذا الشريط الساحلي محفوف بمخاطر السقوط في آبار وحفر كونتها الطبيعة نتيجة انحسار المياه. كما عثر المنقبان الإسرائيليان على بقايا طائرة حربية أردنية من طراز “هانتر” بريطانية الصنع استخدمها سلاح الجو الأردني في ستينيات القرن الماضي.
اشتباك جوي أردني- إسرائيلي
وحسب “هآرتس” فإن الحطام يعود لطائرة موفق بدر السلطي، وهو طيار أردني مرموق سقطت طائرته في البحر الميت عندما كان يحاول تقديم المساعدة لقوات برية في نوفمبر/ تشرين ثاني عام 1966 خلال اشتباك مع قوات إسرائيلية. منوهة أن الجيش الإسرائيلي ارتكب في ذاك اليوم مذبحة السموع ردا على عملية في مستوطنة قريبة من قرية السموع جنوبي الخليل، ووقتها لاحظ طيار إسرائيلي يدعى ران فاكر الطائرةَ الأردنية فاشتبك معها وأسقطها ضمن مواجهات جوية طالت ست دقائق مع طائرات حربية أردنية.
وقال الطيار الإسرائيلي مسترجعا ذكريات المعركة: “نظرت وقتها للطائرة الأردنية وتبادلت النظرات مع الطيار الأردني وعلم كل منا أن من يتنازل فهو ميت، والحقيقة أنه ارتكب خطأ عندما طار على انخفاض شديد وحلق داخل وادي وعندما حاول الابتعاد عن تلة طبيعية أمامه، وضعته ضمن المهداف فاشتعلت طائرته وسقطت، وقد حاول السلطي القفز منها ولكن في تلك اللحظة انحرفت الطائرة وانقلبت على جانبها وخلال خروجه اصطدم بجدار الوادي وقتل على الفور، وقد نقل الجيش الأردني جثمانه وأطلق اسمه على إحدى قواعده الجوية في المملكة الأردنية، أما الطائرة فاستمرت في تحطمها وغرقت داخل البحر الميت”.
وحسب “هآرتس” فقد أبلغ الباحثان الإسرائيليان هداس وأورون الجيش الأردني بعثورهما على حطام طائرة السلطي وسلماها له، وفي الشهر الماضي ثبّت هداس نصبا تذكاريا للسلطي داخل مقبرة مستعمرة عين جدي القريبة.
مرفأ إغريقي قديم عمره 2000 عام
وفي موقع آخر شمالي البحر الميت، اكتشف الباحثان الإسرائيليان مرفأ صغير لحماية المراكب من الفترة اليونانية القديمة عمره أكثر من 2000 عام، وقد تم بناؤه من خلال طمر المكان بآلاف أطنان الحجارة على بعد عشرات الأمتار من الساحل. كما عثروا على عشر مراسٍ قديمة وآثار مرافئ تاريخية من الفترة الفارسية في القرن السابع قبل الميلاد، ومراسٍ من الفترة الصليبية تعود للقرن الثاني عشر الميلادي.
ويضيف هداس:”بخلاف الاكتشافات الآثار في البحر المتوسط، وبفضل الملح، بقيت الموجودات الأثرية المعدنية والخشبية والحجرية بحالة ممتازة حيث نجت من التبلية. وعثرنا على بعض كتل الزفت السوداء على الساحل والتي توقف البحر الميت لسبب لا يعلمه العلماء عن قذفها للساحل عام 1969.وهذه المادة السوداء استخدمها القدماء في تحنيط الموتى وتحضير أدوية ومواد تجميل وفي بناء السفن ولذا بيعت بأسعار عالية في منطقة حوض البحر المتوسط طيلة آلاف السنين.
خريطة مادبا تشهد
ويعتقد الباحثان الإسرائيليان غدعون هداس وأساف أورون أن البحر الميت قد شهد في العصور القديمة حراكا واسعا في مجال الملاحة بغية نقل البضائع والمواصلات علاوة على تجميع كتل الزفت التي كانت تطفو على سطح البحر. وتنوه “هآرتس” إلى أن خريطة مادبا الفسيفسائية التاريخية من القرن السادس ميلادي، تشير لازدهار الملاحة في البحر الميت، حيث تظهر سفينتان تحمل الأولى ملحا والثانية محملة بمواد داكنة اللون ربما هي الزفت أو الحنطة. كما عثر الباحثون الإسرائيليون على موجودات أثرية تعود لمصانع البحر الميت الفلسطينية قبل نكبة 1948 في شمال البحر، وسلاح ألقاه جنود أردنيون على ما يبدو خلال انسحابهم عام 1967.
موت التاريخ
وقد استمر المسح الميداني عشر سنوات، وانتهى عام 2015. ومن وقتها تجرى دراسات على الموجودات المكتشفة تم نشرها في مقالات، وقد تنبه الباحثان الإسرائيليان خلال هذه التجربة للأضرار البالغة الناجمة عن التصحر، خاصة انهيار سواحل البحر الميت والمساس ببنى تحتية، علاوة على محو التاريخ. وقد استنتجا أنه طالما بقي البحر على حاله دون انحسار، فإن الموجودات الأثرية تبقى في قعره سالمة، وعند انكشافها تتعرض للتلف والتحطم نتيجة عوامل المناخ وارتطام الأمواج بها. كما يرجحان أن طبقة الأملاح المتحجرة في سواحل البحر الميت التي تتعرض للتصحر والجفاف في السنوات الأخيرة قد باتت سميكة لدرجة أنه لم يعد بالإمكان الاطلاع على الموجودات الإنسانية الدفينة فيها، ولذا لا أحد يعلم حجم الأثريات التي تفتقد نتيجة لذلك”.
موت الطبيعة
يشار إلى أن “هآرتس” التي تتحدث عن انحسار البحر الميت واحتضاره ومخاطر تبخره، تعزو ذلك للجفاف والتصحر بفعل تغيرات المناخ، لكنها تغفل دور إسرائيل في ذلك، من خلال ضخ مياه نهر الأردن قبل أن تصب في البحر الميت، علاوة على استغلال الوديان والعيون المحيطة بهذا البحر مما يتسبب في انخفاض منسوبه بنحو مترٍ سنويا.