الدكتور منذر الحوارات
في كل دول العالم التي تمرست الحياة الديمقراطية، يتردد في كل انتخابات العبارات والجمل التالية، فاز الحزب الفلاني وانتقل الى سدة الحكم، وخسر الحزب الفلاني وانتقل الى صفوف المعارضة، ونسمع ايضاً (لقد استقال زعيم الحزب) بسبب عجزه عن قيادة الحزب إلى السلطة، وغيرها من الألفاظ والعبارات الناضجة التي تعبر عن الفهم العميق لطبيعة السلطة والمعارضة، فكلاهما جزء من صناعة القرار وإن بأشكال مختلفة، فالمعارضة أساسية كما السلطة، ولا تستقيم الامور بغيابها او تجاهل وجودها لأن ذلك غير متاح في النظم الديمقراطية، فالدولة وسلطاتها هناك محكومة بدستور وقوانين تقيد عملها وتضبطه ضمن معايير المصلحة العامة لا مصلحة الحزب أو قيادته .
هذا هناك، أما في بلادنا فالديمقراطية المزعومة وائمت نفسها مع طبيعة وثقافة المنطقة، فالدولة هنا هي مغنم يسعى الجميع للتحزب والانخراط في العمل السياسي للحصول عليه، لا كوسيلة لخدمة الصالح العام، بالتالي ما نشهده بعد أي انتخابات في منطقتنا لا يعدوا عن كونه جزء من هذا المشهد الذي يفضي دوماً الى الخصام والتناحر، فمثلاً ما شهدناه بعد الانتخابات العراقية الأخيرة لا يغادر هذه الصورة والتي اشاحت فيها القوى والأحزاب هناك عن تمسك مستميت بالسلطة، ولما لا فهي النهر الذي لا ينضب ماؤه من الغنائم والمكاسب، لذلك كان أول مشهد للخاسرين هو محاولة لنسف العملية الانتخابية من أساسها من خلال التشكيك بالمفوضية ومن ثم التشكيك بنتائج الفرز، وهذا مؤشر أو توطئة لما بعده من تطورات قد تشي بها المرحلة المقبلة، واللجوء الى السلاح لحسم الموقف لن يكون مستبعداً إذا ما تَمعّنا في خطابات القوى هناك.
والمؤسف ان القوى السياسية في العراق وبدل من الدخول في جدال حول النتائج كان الأجدى بها أن تجلس مع نفسها في محاولة لفهم مزاج الناخب العراقي الذي عبر عن رفضه لحالة التجاذب الداخلي والارتهان للخارج بطريقتين أولهما مقاطعة الانتخابات إذا استنكفت غالبية المجتمع عن التصويت، كاحتجاج على القوى الحالية والتي مارست السلطة واحتكرت القرار في البلد ورهنت مقدراته لمصلحتها ومصلحة بعض الأطراف الأقليمية المهيمنة بواسطة المليشيات والفساد، اما الطريقة الثانية فكانت بالتصويت العقابي إذ اتجهت الأصوات نحو الأطراف الأقل إنخراطاً في السلطة، والأكثر بعداً عن المليشيات المسلحة والتي ضاق بها المواطن العراقي ذرعاً، إذاً فالنتائج تشير بوضوح الى ميل المواطن العراقي الى مرحلة وسيطة من السلم الأهلي بعيداً عن قرقعة السلاح، والخطابات الحماسية، وهي تشير الى الرغبة بالعودة الى العراق المستقل بعيداً عن هيمنة الجوار، وهي كذلك تفضح ادعاء النخبة السياسية العراقية المسلحة بأنها استطاعت أن تعبر عن مصالح العراقيين وتحقق لهم ما يطمحون إليه.
والآن وبعد أن نفضت الانتخابات العراقية غبارها، وأشاحت الصناديق عن فحواها وبان الفائز والخاسر، ليس أمام الأطراف المنخرطة في العملية سوى خيارين أولهما القبول بالنتائج والسير في طريق الديمقراطية كما هي دول العالم المتحضرة والعراق ليس بأقل منها، وهي التي قد تنتشل العراق من محنته وربما تكون قدوة المنطقة، فترسم معالم مستقبلها وليس العراق وحده، والطريق الثاني هو رفض النتائج والدخول في صراع على الزعامة والسلطة مما قد يجر البلد للاحتراب الأهلي وبالتالي نسف أي أسس للأستقرار في العراق والمنطقة.