وطنا اليوم:”حاولت الانتحار عدة مرات، بسبب ضغوطات الحياة، وعدم تمكني من إيجاد عمل يدر عليّ دخلاً يساعدني على الزواج وبناء أسرة، بعد أن بلغت سن الأربعين”.
بهذه الكلمات بدأ (ع. س) حديثه طالباً عدم ذكر اسمه، وأضاف: “قبل عدة أشهر؛ تناولت كمية كبيرة من الأدوية في محاولة مني للانتحار، ولكن أهلي نقلوني إلى المستشفى، وتلقيت العلاج هناك، وها أنا حي أرزق”.
وقال: “جهدت كي أتحصل على عمل في مجال تخصصي الجامعي (الهندسة المعمارية)، ولكنني لم أتمكن من إيجاد عمل ثابت، فاضطررت إلى أن أقف على بسطة للملابس الأوروبية، ولكنني أحياناً أخسر أكثر مما أربح، بسبب إقدام موظفي الأمانة على مصادرة البسطة بين فترة وأخرى، وقد أتعرض للتوقيف في السجن؛ فأضطر إلى دفع غرامة مالية للحاكم الإداري مقابل الإفراج عني”.
وأضاف: “مضى من عمري 40 سنة، وأنا أنظر إلى كثير من أقراني؛ فأراهم قد تزوجوا ورزقوا العديد من الأولاد، وأقارن ذلك بوضعي، حيث لم أتمكن من توفير ولا فلس للزواج، الذي يحتاج إلى تكاليف باهظة يشعرني استحضارها بالإحباط والاكتئاب”.
وعند سؤاله “هل زالت الأسباب التي دعته للانتحار؟”، أكد أنها لا تزال قائمة، وأن التفكير بالانتحار يراوده بين فينة وأخرى، “ولكنني أدعو الله أن يلطف بي، وأن يصرف عني هذه الأفكار الشيطانية”.
أرقام متضاربة
وأظهرت تصريحات وتقارير رسمية أردنية، تزايد حالات الانتحار بشكل ملحوظ، في بلد يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ومعدلات عالية للبطالة والفقر وانعدام الأمن الغذائي.
وأعلن المركز الوطني لحقوق الإنسان، الثلاثاء، في تقريره السنوي الـ17 حول حالة حقوق الإنسان في البلاد للعام الماضي، عن ارتفاع حالات الانتحار بواقع 140 حالة، مقارنة مع 116 حالة في 2019، عازياً هذه الإحصائية إلى كتاب رسمي لمديرية الأمن العام.
ولكن التقرير الإحصائي الجنائي العام لسنة 2020، الصادر عن إدارة المعلومات الجنائية (تابعة للأمن العام) مطلع أيلول/ سبتمبر الفائت، وثق 169 حالة انتحار، بنسبة ارتفاع بلغت 45.7 مقارنة مع عام 2019، “وهي الأعلى منذ 10 سنوات، إن لم تكن الأعلى على الإطلاق”، وفق جمعية معهد تضامن النساء الأردني (تضامن).
ويُعد الأردن من الدول التي تعتمد أرقاما “ومغيبة” بشأن الانتحار، وفق مديرة مديرية الاختصاصات الطبية في وزارة الصحة الأردنية، إسراء الطوالبة، التي أكدت أن “الأرقام الحقيقية لحالات الانتحار تفوق الأرقام المعلن عنها”.
وقالت الطوالبة في تصريحات ، إن “الإنكار والأسباب الاجتماعية لا تعطي أرقاما حقيقية حول الانتحار. والخوف من وصمة العار يُقلل نسب الإعلان عن حالات الانتحار”.
أسباب متعددة ومركبة
وعزت جمعية “تضامن” ارتفاع حالات الانتحار في الأردن، إلى تداعيات جائحة كورونا والإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة لمواجهتها، والتي كان من بينها حظر التجول والحجر المنزلي، محذرة من “استمرار الزيادة في حالات الانتحار” في حال استمرار “الآثار السلبية الناشئة عن جائحة كورونا”.
ويرى أستاذ علم الاجتماع في جامعة البلقاء التطبيقية حسين الخزاعي، أن الانتحار في الأردن لم يصل إلى مرحلة “الظاهرة”، ولكنها مشكلة كبيرة بحاجة إلى حل.
وقال الخزاعي إن الدراسات السلوكية تقول إن وراء كل سلوك دافع، “وهذا الدافع يتوفر للمنتحر رغم معرفته بأن الانتحار سلوك خاطئ ومحرم ونهايته الموت”، لافتا إلى أن أكثر ما نخشاه هو الانتحار المفاجئ دون أي مقدمات.
وأوضح أن المنتحر غالبا ما يعاني من مشاكل مركّبة، “فقد يجتمع عليه الفقر والبطالة والمشاكل العائلية”، مشيرا إلى أن “25 بالمئة من أسباب الانتحار أمراض نفسية، و20 بالمئة خلافات عائلية، و20 بالمئة أسباب مالية، و30 بالمئة أسباب غير معلنة.
وبين الخزاعي أن من أسباب الانتحار وجود ألعاب إلكترونية خطيرة متوفرة بين أيدي الشباب، تدعوهم إلى القتل والانتحار، مضيفا أن التفكك الأسري وازدياد حالات الطلاق بشكل ملفت في الأردن؛ يُعد من الأسباب الهامة التي قد تؤدي إلى إنهاء الحياة.
ولفت إلى أن العديد من حالات الانتحار التي تقع بين الأطفال؛ سببها الأمهات اللواتي يدعين على أبنائهن بالموت وأن يخلصهن الله منهم، بالإضافة إلى إهمال الأطفال وعدم محادثتهم والجلوس معهم، ناهيك عن العنف الأسري، وكثرة التذمر أو النزاع بين الوالدين أمام الأبناء، والذي يؤدي إلى دخولهم في حالات اكتئاب.
ثلاث رسائل
وأشار الخزاعي إلى أن المنتحر يسعى عبر الانتحار إلى إيصال ثلاث رسائل مهمة؛ الأولى لأسرته بأنها لم تستطع أن تصبر عليه، أو تحل مشاكله، أو تتعايش مع ظروفه، فهو يقرر التخلص من هذه الأسرة، وعقابها بالأثر النفسي الكبير الذي سيقع على أفرادها بعد موته.
وأضاف أن “الرسالة الثانية موجهة من المنتحر إلى المجتمع الذي لم يحل مشاكله، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية؛ بأنه فقد الأمل بهذا المجتمع، ولم يعد قادرا على التواصل مع أفراده، وبالتالي قرر التخلص من العيش معهم”.
وتابع الخبير النفسي والاجتماعي: “أما الرسالة الثالثة؛ فهي للحكومة التي أهملت رعيتها، وكانت قراراتها سببا في الشقاء الذي يعيشونه، فيريد المنتحر أن يقول لهذه الحكومة إنني أرفض أن أكون أحد رعاياكِ، ولم يجد سبيلا لذلك سوى الانتحار”.
وقال الخزاعي إن تعامل العائلات على استحياء مع الأمراض النفسية التي قد تصيب أبناءها، وعدم أخذهم لزيارة الطبيب النفسي؛ يؤدي إلى تفاقم هذه الأمراض إلى درجة تدفع المصاب بها إلى الانتحار.
وأوضح أن من العلامات الدالة على احتمالية إقدام الشخص على الانتحار، والتي تستوجب معالجته عند الطبيب النفسي؛ كثرة حديثه عن رغبته بالموت والخلاص من الحياة، أو التذمر الدائم من المشاكل التي يواجهها وأنه لا يجد حلولا لها، أو تكرار الحديث عن أن الدنيا مظلمة في وجهه.
وبين أن “القضية الأخطر هو أن محاولي الانتحار الذين تتحفظ عليهم الأجهزة المعنية؛ يُسلمون إلى أهاليهم فورا، ولا يتم عرضهم على طبيب نفسي من قبل الحكومة، ولا التأكد من أن مشاكلهم الاجتماعية حُلت، وأصبحوا قادرين على الاندماج مع المجتمع بشكل جيد”، متسائلا: “ما الذي يضمن ألا يحاول الانتحار مرة أخرى؟”.
وحذر الخزاعي مما أسماه “العدوى العائلية للانتحار” وذلك بعد تسجيل حالات انتحار لأفراد من عائلة واحدة، ومحاولة انتحار فاشلة لأب واثنين من أبنائه، لافتاً إلى أن غالبية المنتحرين هم من العاطلين عن العمل والطلاب والأحداث.
وبلغت نسبة معدلات البطالة في الأردن نحو 25 بالمئة، وفق دائرة الإحصاءات العامة، إلا أن البنك الدولي أعلن مؤخرا أن معدلات البطالة بين الأردنيين بلغت نسبة لا سابق لها وصولا إلى نحو 50 بالمئة.