عشرونَ حولاً من الآسنِ… ولم يستفقِ الوزراءُ إلا لصفعةِ إعلاميٍّ نَزِقٍ

3 دقائق ago
عشرونَ حولاً من الآسنِ… ولم يستفقِ الوزراءُ إلا لصفعةِ إعلاميٍّ نَزِقٍ

بقلم: هشام بن ثبيت العمرو
في عصر يُزَيِّنُ فيه الساسةُ ألسنتهم بشعار “حكومة الميدان” كأنه لواءُ انتصارٍ في معركةٍ وهمية، نصطدم بواقعٍ أليمٍ يُفضحُ النفاقَ والتدليس. حكوماتٌ تتربَّعُ في قصورها المُكيَّفة، محاطةً بأسوارٍ من الورقِ والتقاريرِ البعيدةِ كلَّ البُعدِ عن الواقع، أو قد حُلِّيتْ وجُمِّلتْ حتى لا تُكدِّرَ مزاجَ معالي الوزير، لا تتحرَّكُ إلا إذا انفجر صُراخُ مواطنٍ مُنهَكٍ أو تقريرٍ إعلاميٍّ جريءٍ يهزُّ أركانَ الرأي العام. أين اختفت تلك الحكومةُ التي تتيهُ فخراً بأنها “ميدانية”، تتنشَّقُ هواءَ الدَّروبِ وتُلقي السمعَ لنبضِ النواحي المنسية قبل أن يتفجَّرَ الغضبُ بركاناً؟ أهي سرابٌ يُروَّجُ له في الخطب الرسمية، بينما الإهمالُ يمتدُّ سنينَ عدداً، ولا يُكشفُ إلا حين يصيرُ القضيةُ “ترنداً” على منصاتِ التواصل؟
ذلك الوطن الذي يُزعَمُ أنه يُدارُ بيدٍ ميدانيةٍ صلبة فيه قرية تدعى البربيطة والتي أكاد أقسم بأن أغلب وزراء الحكومة لا يعرفونها ولم يسمعون بها ولا حتى يستطيعون لفظ اسمها بشكل صحيح، تلك الرقعةُ الريفيةُ المنسية بين محافظتي الطفيلة والكرك، تغوصُ منذ عقودٍ في جحيمٍ يوميٍّ بسبب مياهٍ آسنةٍ لا تصلحُ للشرب. تأمَّلوا: عشرون عاماً كاملةً، أهالي يرتشفون ماءً مُلوَّثاً ينخرُ الصحةَ، ويُجبرون على الاعتمادِ على صهاريجَ نادرةٍ أو شراءِ قطرةٍ نظيفةٍ بأثمانٍ تُذيبُ الكفاف. لم يكن هذا خفيّاً مستوراً؛ التقاريرُ كانت تتراكمُ على مكاتبِ الوزراء، والشكاوى تتدفَّقُ من خلال الموظفين والإدارات المحلية. لكن، هل اهتزَّ ساكنٌ؟ هل وطئت قدمُ رئيس الوزراء أو وزرائه ترابَ هذه القرية قبل أن يصير الأمرُ فضيحةً إعلامية؟ كانت البربيطة، كغيرها من النواحي المهمشة في المملكة، مجردَ سطرٍ في تقريرٍ شهريٍّ يُلقى نظرةً عابرةً ثم يُلقى في سلةِ النسيان البيروقراطي.
ثم برز إعلامي صاحب صوتُ جريءُ، ليُلقي الضوءَ على المأساةِ بتقريرٍ ميدانيٍّ صادم. زار البربيطة، استمع إلى أنين الأهالي، ونقل صوراً حيةً لمعاناتهم: أطفالٌ يعبثون بمياهٍ تشبه الطين، عائلاتٌ تكابدُ لتوفير قطرةٍ صافية، وتهميشٌ يمتدُّ إلى أبجدياتِ البنى التحتية. لم يكن هذا تقريراً روتينياً؛ كان صفعةً على وجوه الغافلين. فجأة، انطلقت الآلةُ الحكوميةُ كأنها كانت تنتظر إشارةَ الإذن. وزير المياه والري، رائد أبو السعود، يزور القريةَ في جولةٍ ميدانيةٍ مفاجئة، يأمرُ بزيادة الصهاريج، ويعدُ بإنجازٍ سريعٍ لمحطة معالجة المياه. وكأن الوزراءَ كلهم استفاقوا من سباتٍ عميق، يتسابقون للزيارة والوعود، يلتقطون الصورَ بجانب الأهالي كأبطالٍ في مسرحية نجاحٍ حكومي. أهذه “حكومة الميدان”، أم مجردُ تمثيليةٍ تبدأ بعد أن يُشعلَ الإعلامُ الفتيل؟
وأين غاب نوابُ المنطقة وأعيانُها عن معاناة أبناء محافظتهم؟ ألم يسمعوا بالبربيطة من قبلُ؟ ألم يطرقوا أبوابَها أيامَ الانتخابات، يجمعون الأصواتَ للوصولِ إلى قبة البرلمان والمناصب الرفيعة؟ أين هم الآن، حين يئنُّ الشعبُ تحت وطأة الظمأ؟ هل انشغلوا بمجالس الشاي في عمَّان، أم أن صوتَ الناخبِ الريفيِّ لا يصلُ إلا حين يُرفعُ بالصراخ؟ إن غيابَهم ليس تقصيراً فحسب؛ إنه استهتارٌ بالأمانة التي حملوها، وتجاهلٌ لدماء الشهامة التي تجري في عروق الأردنيين.
والسؤالُ الذي يمزِّقُ الصدرَ غيظاً: لماذا لم تكن البربيطةُ على طاولة رئيس الوزراء أو الوزراء قبل أن يُثيرها إعلاميٌّ جسور؟ لماذا يُجبرُ الأردنيون على “مواطنٍ غيورٍ ضاقت به السبل”، أو صحفيٍّ يتحدى الرقابة، ليستجدي حقّاً أساسيّاً مكفولاً بالدستور الأردني؟ الدستور، تلك الوثيقةُ المقدَّسة، ينصُّ صراحةً على حقِّ كلِّ مواطنٍ في “العيش الكريم”، ويُلزمُ الحكومةَ بتلبية الحاجات الأولية كالماء والصحة والتعليم. لكن في الواقع، يبدو أن هذا الحقَّ يُمنحُ فقط بعد حملةٍ إعلاميةٍ أو احتجاجٍ شعبي. أما النواحي الأخرى في المملكة – من الجنوب المنبوذ إلى الشمال النائي – فهي تنتظر دورَها في قائمة الانتظار اللامتناهية، تحتاج إلى “إعلاميٍّ جسور” يكشف إهمالَها، أو مواطنٍ يائسٍ يصرخ في الفراغ حتى يسمعه العالم.
وأشدُّ ما يُثيرُ السخطَ المُركَّبَ، بل الغليانَ الذي يغلي في العروق، أن أولَ المتبرعين لحلِّ قضية بئر ماء البربيطة كان مواطناً إماراتيّاً كريماً! مع كلِّ الاحترام والتقدير للإمارات وشعبها الأصيل، فهل فرغت خزينةُ الدولة من المال الذي يتبنَّى مشروع مياهٍ صحيٍّ للمنطقة حتى يتكفَّلَ به عربيٌ نبيل؟ هل أصبحنا نستجدي الرحمةَ ونحن وطنُ العزِّ والشهامة، أرضُ الكرامة التي سالت فيها دماءُ الأجداد دفاعاً عن الكرامة؟ إن هذا لَعارٌ يُدمي القلب، وفضيحةٌ تُسقطُ هيبةَ الحكومة! أين الميزانياتُ الضخمةُ التي تُنفقُ على المشاريع البرَّاقة، بينما يُتركُ شعبٌ يعاني الظمأَ حتى يأتي الغريبُ ليضمدَ جراحَه؟ إن هذه الفئةَ من المواطنين – الذين لم يجدوا حتى من يُداوي جراحاتهم، يتخبَّطون في الفقر والمرض واليأس – هم ضحايا حكومة تتغنَّى بالميدان بينما وزراءها غارقون في بحور التقارير المُحلَّاة، ومدراء مكاتبهم يحجبون عنهم رائحةَ التراب.
هذا النهجُ ليس تقصيراً؛ إنه إهانةٌ للثقة العامة، وخنجرٌ في خاصرة الوطن. أين الزياراتُ الميدانيةُ الدورية؟ أين الاستماعُ الحقيقيُّ لصوت الريف والصحراء؟ هل يجب أن ننتظر دائماً حتى يصير الإهمالُ فضيحةً عالمية لتتحرَّك الآلةُ الإدارية؟ في النهاية، “حكومة الميدان” ليست شعاراً يُكتبُ على لافتات الدعاية؛ إنها عهدٌ يوميٌّ بتفقُّد الجراح قبل أن تنخر الجسد. إذا استمرَّت هذه الحكوماتُ في الاكتفاء بالكراسي الوثيرة والتقارير المُجَمَّلة، فإن الشعبَ سيكون الخاسرَ الأوحد.
من يعلق الجرس يا دولة الرئيس آن الأوان لأن يكون النهج ميدانياً لا شعبوياً مسرحياً يكتفي بالصور التي يتم التقاطها لمشاهد أبطالها دوبلير.