مخطوطات تم اكتشافها مؤخرًا للمؤلف الفرنسي لويس فرديناند سيلينى

23 سبتمبر 2021
مخطوطات تم اكتشافها مؤخرًا للمؤلف الفرنسي لويس فرديناند سيلينى

وطنا الوم ـ عربي دولي

يعتبر الكاتب والطبيب الفرنسي، فرديناند سيلين، أحد أعظم مبتكري الأدب الفرنسي في القرن العشرين، ولا تزال سيرته الذاتية وكتاباته تقرأ وتدرَّس في الجامعات.

وفي الآونة الأخيرة، كثر الحديث عن هذا الكاتب العبقري بعد العثور على مخططات سرقت من شقته في باريس عام 1944، عندما بدأت تلوح هزيمة الجيش النازي في الأفق، ليمثل هذا الاكتشاف حدثا ثقافيا نادرا تحتفل به فرنسا والعالم.

فبفضل أسلوبه القريب من اللغة المحكية والعامية وابتكاراته اللفظية، قلب الروائي الفرنسي الأدب رأسا على عقب، وقدم أعمالا ثورية مجدت اللغة اليومية في الأدب.

إن سيلين كاتب غير قابل للتصنيف وفريد من نوعه، وتستمر أعماله في إذهال عشاق الأدب بفضل إنتاجاته الأدبية المتأرجحة بين السيرة الذاتية والنقد الاجتماعي والسياسي.

ولا يمكن فهم مدى أهمية الكاتب الشهير، سيلين، من دون الإشارة إلى حياته وتحيزاته الشخصية والعائلية، والدراما والمآسي التي مر بها بسبب معاداته للسامية.

اكتشاف كنوز سيلين

تسعى “دار نشر غاليمار” أن تكون الناشر الحصري لمخطوطات سيلين التي تم اكتشافها، وتضم 6 آلاف صفحة، بما في ذلك 800 صفحة من رواية “كاس ـ بيب”.

ولا يعرف الدارسون لتاريخ وأدب سيلين سوى مقتطفات قليلة من هذه الرواية التي ستعرّف الجمهور على تفاصيل الحرب العالمية الأولى وتجربة الكاتب عندما كان مجندا في سلاح الفرسان في ثكنة رامبويه (ضواحي باريس) قبل أن ينتقل إلى جبهة الحرب.

ويحتوي هذا الكنز الأدبي على أجزاء تخلى عنها سيلين وحذفها من رواية “رحلة في أقاصي الليل” الشهيرة، التي نشرت عام 1932، بالإضافة إلى ألف صفحة من رواية لم تنشر من قبل تحمل عنوان “لندن”، وصفحات من مخطوطة “الموت بالدين” التي يُتوقع أن يتم منحها للمكتبة الوطنية في فرنسا.

اتضح من التحقيقات أن الأمر يتعلق بفرد من عائلة أحد الأشخاص الذين قاموا بسرقة منزل الروائي، وأنه تركها لعائلته بعد وفاته وبقيت قابعة في قبو بمنزل في جزيرة كورسيكا لأكثر من 70 عاما.

وعُثر على المسروقات بحوزة الناقد المسرحي الفرنسي، جان بيار تيبودا، الذي تلقى رسالة من مجهول يخبره فيها أنه يحتفظ بمخطوطات سيلين المسروقة، ويريد أن يسلمها بشرط أن يتم نشرها بعد وفاة أرملة المؤلف، التي توفيت عام 2019 عن عمر يناهز 107 عاما، خشية أن تستغلها لجني المال.

تم استرداد حوالي 6 آلاف ورقة غير منشورة من قبل ورثة سيلين (1894-1961)  (الفرنسية)

واعتبر الناقد إيمانويل بيرا أن هذه المخطوطات كنز لا يقدر بثمن وهي بمنزلة “قنبلة نووية ستغير نظرتنا إلى سيلين بشكل جذري، وإلى الأدب الفرنسي في القرن العشرين بشكل عام”.

ووصف شاندان باسو -المختص في أدب سيلين- الروائي الراحل بـ”الرجل الأنيق الذي نجح في جعل موسيقاه مسموعة عبر تحويل اللغة المنطوقة وانطباعاتها العاطفية إلى لغة مكتوبة”.

أديب مثير للجدل

ولد لويس فرديناند أوغست ديستوشيز يوم 27 مايو/أيار 1894 في كوربفوا بضواحي العاصمة الفرنسية، باريس، حيث انتقل للعيش في منطقة الأوبرا.

ويعرف باسمه المستعار “سيلين” الذي أخذه من جدته. وتنحدر عائلته من أوساط البرجوازية الصغيرة المفلسة والمنخفضة الرتبة الاجتماعية من التجار والحرفيين الذين لا يستطيعون تحقيق أحلامهم وطموحاتهم. وكانت والدته مصممة دانتيل ووالده موظفا في شركة تأمين.

وقد استمد سيلين مادة قصصه من بداياته الفقيرة، التي شبهها بـ”تحت الجرس”، في إشارة إلى إنارة شوارع منطقة الأوبرا التي كانت تستخدم مواقد الغاز حينها.

شغل عددا قليلا من الوظائف البسيطة قبل الالتحاق بالجيش الفرنسي عام 1912، وهو يبلغ من العمر 18 عاما، وأكسبته مشاركته في الحرب العالمية الأولى وسام “كروا دو غير” والميدالية العسكرية.

وبعد الحرب، تزوج سيرين من إديث فوليت، ثم حاز على شهادة البكالوريا عام 1919، ودرس الطب حتى عام 1924. ويُذكر أن أطروحته حظيت باهتمام كبير بفضل مهاراته الكتابية.

وقبل أن يغادر إلى جنيف حيث تم تعيينه طبيبا من قبل عصبة الأمم، التي كانت سلفا للأمم المتحدة، سافر عبر القارات وتعرف على أفريقيا بمآسيها الاستعمارية، وعلى الرعب الاقتصادي في أميركا الرأسمالية.

ثم عاد سيلين ليستقر في فرنسا حيث تم تجنيده لإدارة مستوصف في كليشي بضواحي باريس. وقد ساعدته هذه الوظيفة المستقرة في تكريس الوقت لميوله الأدبية.

في البداية، نشر سيلين العديد من المسرحيات وبعض الروايات التي لقيت فشلا تجاريا، ثم شرع في نشر الكتيبات ليتغلب على خيبة الأمل، إلا أنه لم يعلم أنها ستكون مسؤولة عن مصائبه المستقبلية.

اختفت المخطوطات لفترة طويلة بطريقة غامضة وعثر عليها مؤخرا (الفرنسية)

تأييد النازية

عرِف سيلين بإداناته المتكررة لليهود وحمّلهم المسؤولية عن إخفاقاته الشخصية وجميع شرور العالم، وقاده هذا الأمر إلى معاداة السامية وتأييد النازية والاقتراب من دوائر اليمين المتطرف.

فعلى سبيل المثال، أدت نشأته في جو قومي متطرف إلى اهتمامه العميق بفضيحة “دريفوس” السياسية التي قسمت الجمهورية الفرنسية الثالثة بين عامي 1894 و1906، حين أدين ضابط مدفعية فرنسي يهودي بتهمة الخيانة بسبب تسليمه وثائق سرية للألمان، وحكم عليه بالسجن المؤبد.

واعتبرت هذه الإدانة دليلا قاطعا على أهمية الصحافة والرأي العام، فضلا عن إخفاق العدالة لتبرير المصلحة الوطنية استنادا إلى تهم مرتبطة بمعاداة السامية والتجسس، في فترة كان الإحساس بالكراهية تجاه ألمانيا سائدا بعد ضمها لمنطقة الألزاس (شمال شرق فرنسا) عام 1871.

وقد ترك التحاق سيلين بالجيش الفرنسي أثرا عميقا في حياته، وخاصة في أسلوبه الروائي الذي اتسم بنزعة متشائمة رافضة للحرب، ولهذا، كان يحاول في كتاباته سرد مغامراته الحربية، وفضح البطولات والأساطير العسكرية، والقيم الأخلاقية المفترضة لمجتمع منافق محكوم عليه بالانحدار.

الكتاب الأول

في عام 1936، نشر سيلين كتيبه الأول وأدان فيه روسيا السوفياتية بشكل رسمي. ثم تحولت منشوراته لاحقا إلى استهداف اليهود المتهمين بتأجيج الحرب ضد ألمانيا أدولف هتلر. وعند نشره لأحد كتبه، صرح سيلين: “لقد نشرت للتو كتابا معاديا للسامية. أنا العدو الأول لليهود”.

ووصفه معاصروه حينئذ بأنه كاتب عنصري ومنهجي للإفراط اللفظي والكلمات البذيئة، وأشاروا إلى أن عدم احترامه لليهود كان بدون مبرر. ففي كتابه “كلفة بخسة لقتل بالجملة” كتب سيلين “أقولها بصراحة تامة، أفضل 12 هتلر بدلا من بلوم”.

ونشر سيلين في كتيب “المواقف الحرجة”، شهر سبتمبر/أيلول 1939، رسما كاريكاتوريا معاديا للسامية يصور ليون بلوم -رئيس وزراء فرنسا 3 مرات وهو يهودي- إضافة إلى إدوارد دالاديير -رئيس وزراء فرنسي وقع على اتفاقية ميونخ لمنح ألمانيا النازية السيطرة على السوديت (إقليم غرب التشيك)- وهما يضحيان بجندي فرنسي في “فيشنو” بمناسبة إعلان الحرب على ألمانيا النازية.

وفي تلك الفترة، دعم سيلين ألمانيا النازية بشكل علني وتردد على قادة نظام فيشي، وانتشرت شائعات اتهمته بالتعاون مع النازيين في أثناء احتلالهم لفرنسا عبر التبليغ عن اليهود لنقلهم إلى معسكرات الاعتقال الجماعي.

علم سيلين أن تواطؤه الأيديولوجي مع العدو قد يكلفه غاليا في فرنسا المحررة عام 1944. ولهذا، اتخذ طريق المنفى مع زوجته، حيث لجأ إلى ألمانيا، ثم إلى الدنمارك. لكن أُلقي عليه القبض عندما وصل إلى كوبنهاغن عام 1945، ليعيش أصعب 6 سنوات في حياته، مقسمة بين السجن والحرية.

ثم عاد الكاتب إلى فرنسا وكتب 3 روايات تحدث فيها عن المنفى ورحلته عبر ألمانيا المهزومة، وأعاد إحياء وريد الرواية الذاتية والنقد الاجتماعي لديه، وعاش فرديناند سيلين وحيدا في ضاحية ميدون الباريسية إلى أن مات عام 1961.

المصدر : الجزيرة