وطنا اليوم – في مثل هذا اليوم من عام ١٩٤٩، توفي مصطفى وهبي التل، أو عرار كما كان يوقع كتاباته، أحد أعظم الشعراء الأردنيين وأكثر الشخصيات غرابة. ولد عرار في إربد عام ١٨٩٩ لأب محامي، وأم ذات عناد “يكاد يكون كُفراً”.
ورث عرار عناد والدته، وتجلى ذلك في شخصيته بشكل مبكر عندما شارك على سبيل المثال مع أقرانه الطلاب في إضراب يحتج على سياسات الإمبراطورية العثمانية في المنطقة وهو في السادسة عشر من عمره.
لم يكمل عرار دراسته، وفي عام ١٩١٧ قرر التوجه إلى إسطنبول برفقة أحد أصدقائه، ولكنه توقف عند عمه في منطقة عربكير التركية قرب الحدود مع العراق، وقرر المكوث هناك والعمل لدى مجلة أسكيشهر.
في تلك الأثناء، تزوج عرار من سيدة كردية تدعى منيفة بابان، والتي أنجب منها لاحقاً وصفي، رئيس الوزراء الأردني المعروف. لم يدم مصطفى طويلاً في عمله، إذ أنه استقال وترك زوجته الحبلى عند عائلة عمه، وعاد ليكمل دراسته الثانوية في دمشق ثم حلب.
بدأ عرار عمله عام ١٩٢٢ في إمارة شرق الأردن كمعلم للأدب العربي في الكرك، وهناك تعرف على الكاتب يوسف العودات الذي كتب لاحقاً: “كان أبرز ما لفت نظري في هذا المارد الأسمر: قوام فارع، ووجه معروق، وشعر فاحم أرسله على كتفيه تأسياً بفلافسة الإغريق، ولثغة راء محببة كان يطلقها لسانه.
قلت لمصطفى مداعباً: لم أرسلت شعرك على كتفيك كأنك السيد المسيح أو يوحنا المعمدان؟ قال: تأسياً بعُمَر الخيام.”
في العشرينيات بدأ عرار نشاطه السياسي في شرق الأردن وفلسطين، وتعرف وقتها على صاحب جريدة الكرمل الحيفاوية نجيب نصار، الذي سمح له بكتابة المقالات السياسية والأدبية في جريدته.
أخذ عرار ونصار ينشران أفكار تدافع عن القومية العربية وتحذر من الاتجار بالدين خلال زيارتيهما إلى مدينتي الناصرة والكرك. أما في الثلاثينيات، فتقلد عرار العديد من المناصب القانونية، إذ أنه حصل على إجازة المحاماة بعد تقدمه لفحص المحاماة عام ١٩٢٩.
كون عرار أكثر علاقاته متانة مع الغجر، فهذه الصداقة تعمقت، مع سهره في مضاربهم حتى ساعات الصباح الأولى حيث أقاموا على طريق مأدبا، بحميرهم، ورباباتهم، وبهلوانيهم، ومغنياتهم.
تركت هذه الصداقة الأثر الأكبر في نفسه، وعلى إنتاجه الأدبي حتى وصلت إلى تسمية ديوانه الشعري الوحيد باسم عشيّات وادي اليابس التي أهداها إلى غجرية أحبها. ترجم عرار أيضاً رُباعيات عمر الخيام من الفارسية والتي كان يتقنها.
وصف عرار نفسه خلال برنامج إذاعي على الإذاعة الفلسطينية: “إني رجل طروب وأني في حياتي الطروبة أفلاطوني الطريقة، أبيقوري المذهب، خيّامي المشرب، ديوجني المسلك، وإن لي فلسفة خاصة هي مزيج من هذه المذاهب الفلسفية الأربعة.” لعل أجمل أشعار عرار كانت عن الأردن وواقعها السياسي والاجتماعي.
عين الأمير عبدالله عرار رئيساً للتشريفات في الديوان الأميري عام ١٩٤٢، ولكنه لم يصمد في عمله سوى أشهر قليلة بعد مشادة بينه وبين رئيس الوزراء، فسُجن عرار ٧٠ يوماً.
بعد هذه الحادثة سيطر على عرار اليأس والمرارة وكره الحياة، فأدمن الخمر وساء مرضه، فهو تعرض للسجن والنفي عدة مرات في حياته بسبب انتقاده أو إساءته لمسؤولي الدولة العثمانية، وحكومة الملك فيصل في سوريا، وحكومة إمارة شرق الأردن.
توفي عرار في عمر يناهز الخمسين عاماً، “وفي المستشفى الحكومي بعمّان قست يد الموت على عرار وأمعنت في قلبه دقًا ووخزاً وقبل أن يلفظ نفسه الأخير قال بلهجته الإربدية البريئة: آخ لو أطيب وأحجي اللي بقلبي.. أخ.. أخ لو أقول آخ يشفي الغلايل”.