وطنا اليوم – تشير المعارك التي خاضها المجاهدون والمتطوعون والجنود والضباط العرب إلى أن مصير فلسطين كان سيكون مختلفا لو توفر السلاح والذخيرة والإرادة السياسية العربية الموحدة، ولو توفرت الحماية لمئات القرى الفلسطينية التي كانت معزولة في الجبال والأودية دون أسلحة مما سهل للصهاينة ارتكاب مجازر أدت إلى عمليات نزوح كبيرة بعد حرب نفسية ممنهجة.
ومن معارك عام 1948 التي شكلت مفصلا محوريا في الحرب كانت معركة القدس بوصفها المعركة التي نتج عنها الاحتفاظ بالقدس القديمة، أو ما أصبح يعرف بـ”القدس الشرقية”.
في كتابه “بطولات الجيش العربي القوات المسلحة الأردنية في القدس وفلسطين 1948″ يؤكد الدكتور يوسف حسن غوانمة أن القادة البريطانيين في الجيش العربي/ الأردني حاولوا ثني الضباط والجنود الأردنيين عن خوض أية معارك ضد الصهاينة، إلا أن الضباط والجنود كانوا مدفوعين بحماس وطني وقومي وديني فرفضوا الأوامر وقاموا بـ”مبادرات شخصية” في الهجوم على القوات الصهيونية في القدس.
فقد أمر قائد الجيش جون غلوب (باشا) كتائب الجيش العربي المتواجدة في فلسطين منذ أيام الحرب العالمية الثانية بالانسحاب قبل انتهاء “الانتداب” البريطاني على فلسطين، وأصدر أوامره بعدم التدخل في الاشتباكات التي نشبت بين العرب والصهاينة إثر قرار التقسيم وقد كان لـ”جيش الإنقاذ” و”جيش الجهاد المقدس” والمتطوعين العرب دور هام في تكبيد اليهود خسائر فادحة قبل 15 أيار/ مايو عام 1948 موعد انتهاء “الانتداب” البريطاني .
بانسحاب القوات البريطانية من القدس في 14 أيار/ مايو أخذت القوات الصهيونية والعربية داخل المدينة تتأهب لملء الفراغ وكانت القوات الصهيونية قد أتمت سيطرتها على معظم المنطقة الواقعة خارج أسوار المدينة القديمة، باستثناء الأحياء العربية التي قصفت بقذائف المورتر.
لكن الاستغاثات والمناشدات التي أرسلت من قبل المقدسيين للملك عبد الله الأول صبيحة 15 أيار/ مايو عام 1948 دفعته إلى إصدار أوامره بدخول قوات الجيش العربي عبر جسر اللنبي/ الملك حسين، إلى فلسطين مكونة من لواءين تمركز أحدهما بمنطقة نابلس بينما تمركز الأخر قرب رام الله، وبعده قامت السريتان الأولى والثانية بالتمركز في جبل الزيتون المطل على القدس فيما كان قائد الكتيبة السادسة عبد الله التل ـ الذي نجح في توحيد جميع فصائل المجاهدين والمتطوعين العرب تحت قيادته ـ يزحف للدخول القدس .
كانت معركة تحرير “الشيخ جراح” من أعنف المعارك وأشدها ضراوة، كما دخلت عربات الجيش العربي المصفحة القدس من باب العامود، وبدأت القوات الأردنية الاستعداد للهجوم على القطاع اليهودي من المدينة.
وتقدمت قوات الجيش العربي من رام الله إلى القدس، وبدأ قصف المدينة بالمدفعية الثقيلة، ودخلوا المدينة القديمة من باب الأسباط واشتبكوا مع قوات صهيونية داخل القدس في محاولة للاستيلاء على الحي اليهودي في القدس القديمة.
وتزامنا مع ذلك صدرت الأوامر إلى قادة وحدات الجيش العربي بالهجوم على “الشيخ جراح”، وتقدمت مصفحات الجيش العربي نحو “الشيخ جراح” واستولت على التلة الفرنسية المشرفة على المداخل الشمالية للمدينة ومنها إلى مدرسة “البوليس” التي كانت بأيدي عصابات “الأرغون” اليهودية آنذاك واتصلوا مع الكتيبة السادسة.
كانت معركة تحرير “الشيخ جراح” من أعنف المعارك وأشدها ضراوة، كما دخلت عربات الجيش العربي المصفحة القدس من باب العامود، وبدأت القوات الأردنية الاستعداد للهجوم على القطاع اليهودي من المدينة.
شدد الجيش العربي قصفه للقدس الغربية، فقصف مقر قيادة الوكالة اليهودية ومحطات الكهرباء وأهدافا أخرى وسط المدينة، وتمكن من عزل الحي اليهودي في القدس القديمة. وفي 18 أيار/ مايو تمكنت قوة صهيونية من احتلال جبل صهيون، ثم واصلوا تقدمهم إلى باب النبي داود واجتازوه وانضموا إلى القوات اليهودية التي تدافع عن الحي اليهودي بالقدس القديمة.
ودارت معارك وصفت من قبل المؤرخين بـ”العنيفة” في أحياء القدس القديمة، وفي هذه الأثناء قامت الكتيبة السادسة بقيادة عبدا لله التل بهجوم مضاد وتمكنت قواته من استعادة باب النبي داوود وطرد القوات الصهيونية وأصبح الحي اليهودي محاصرا.
وفي نفس الوقت قامت قوات من المجاهدين والمتطوعين العرب بهجوم كبير حتى باب العامود، ومن هناك تقدموا باتجاه “دير نوتردام” الحصين.
كانت معركة “النوتردام” من المعارك الصعبة والشديدة الصلابة وفقد الجيش العربي في المعركة في 23 أيار/ مايو عددا كبيرا من جنوده وضباطه، ورأى غلوب (باشا) أنه من غير الممكن “التورط” في شكل من الحروب أكثر تعقيدا، إلا وهو قتال الشوارع، لذا قرر تقليل خسائره فأوقف الضغط على القدس الغربية.
وهكذا كان على الفيلق العربي أن يتوقف على بعد أمتار قليلة من قلب الأحياء اليهودية بالقدس، وأنقذت المدينة اليهودية بسبب توقف الهجوم على “النوتردام” بأوامر قائد الجيش. بحسب غوانمة.
ويذكر المؤرخ الأردني الراحل سليمان موسى بأن غلوب قال في كتابه “جندي من العرب”: اضطر جنود المشاة إلى الانسحاب من بناية “النوتردام” بعد أن أصبحوا مطوقين تقريبا. كان عدد الشهداء والجرحى قد ارتفع إلى حد خطير فمن مجموع 200 رجل بدؤوا الهجوم، كان النصف قد استشهدوا أو أصيبوا بجراح عميقة.
كانت المعارك في الحي اليهودي دامية ومنهكة جدا، وكان عدد المقاتلين في “الحي اليهودي” حوالي 1800 مقاتل ووقع قتال شوارع بين الطرفين العربي والصهيوني. وعندما نفذت الذخائر التي بحوزتهم وتضاءلت المساحة التي يدافعون عنها أرسل الصهاينة إلى قائد الكتيبة السادسة عبد الله التل في 28 أيار/ مايو من أجل الاستسلام.
أخذ التل عددا من المقاتلين الصهاينة كأسرى حرب، أما المدنيين فقد سمح لهم الجيش العربي بالمغادرة وكان عددهم نحو 1190 شخصا. وأرسل الأسرى وعددهم نحو 350 أسيرا إلى معتقل المفرق. أما قتلاهم فكان نحو 300.
على الجانب الأخر توجهت الكتيبة الرابعة بقيادة القائد حابس المجالي إلى اللطرون، وتمكنت من تحرير الطريق الرئيس الذي يصل تل أبيب بالقدس، في 22 أيار / مايو بينما كانت معركة القدس في أوج احتدامها.
كما عزز المجالي قواته بالكتيبة الثانية التي تمركزت في منطقة وباب الواد، وفي 23 أيار/ مايو وصلت وحدات الهجوم اليهودية إلى طريق اللطرون- القدس، وكانت القوات الأردنية بانتظارهم، وقتل منهم المئات في أكبر خسارة من نوعها. وفي الوقت نفسه كانت قوات من الجيش العربي والمتطوعين والمجاهدين العرب قد حرروا قرى بيت جيز، وبيت سوسين.
إن العلاقة العسكرية بين الأردنيين وفلسطين تعود إلى عام 1941 عندما كان على أرض فلسطين 17 سرية أردنية وكانت العلاقة “حميمة” بين الجيش العربي الأردني والشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية
وكانت معركة اللطرون الأولى هزيمة للصهاينة على يد قوات الجيش العربي، وكان هذا النصر حافزا للقائد المجالي أن يقوم بمهاجمة النقطة الحصينة الرئيسة لقوات “الهاجاناه” شمال طريق القدس في 26 أيار/ أيار وطرد القوات الصهيونية المتمركزة فيها والاستيلاء على تل الرادار بمنطقة بدو. وخلال المعركة الأولى قتل من الصهاينة في اللطرون أكثر من 700 صهيوني، أما مجموع ما خسروه في معاركهم في اللطرون ضد الجيش العربي فكان أكثر من 1300 مقاتل.
يقول المؤرخ والموثق الأردني الدكتور بكر خازر المجالي إن العلاقة العسكرية بين الأردنيين وفلسطين تعود إلى عام 1941 عندما كان على أرض فلسطين 17 سرية أردنية وكانت العلاقة “حميمة” بين الجيش العربي الأردني والشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية، وعندما توجه الجيش العربي الأردني إلى فلسطين واستقر في رام الله وأقام قيادة عسكرية رئيسية للجيش العربي الأردني، علم الملك عبد الله الأول أن الصهاينة يريدون الدخول إلى القدس القديمة واحتلالها، ومن هنا بدأت معركة القدس.
من جانبه يقول الباحث والمؤرخ في التاريخ الأردني والعربي المعاصر الدكتور احمد التل في حديث صحافي إنه نتيجة الضغط الصهيوني على الأحياء العربية ومهاجمة أبواب القدس القديمة أصبحت القدس القديمة مهددة بالسقوط ما اضطر زعماء القدس إلى الذهاب إلى عمان ومراجعة الملك عبد الله الأول ما أثار حماس الملك وشعر أنه حان الوقت لاتخاذ قرار فاتصل بالقائد عبد الله التل وكان مركز قيادته في أريحا ووجه إليه الأمر بالتوجه إلى القدس لإنقاذها.
وأضاف التل كان الصهاينة يشغلون 3 مستعمرات جنوب القدس وكانوا “يتحرشون” بالجيش العربي فقرر عبد الله التل وحكمت مهيار قائد القوافل الانتقام من هذه المستعمرات وقد نجحوا وكانت نتيجة المعركة أن استسلمت المستعمرات الثلاث بعد تدميرها.
وأشار التل إلى أن حالة الصهاينة كانت “يرثى لها” من شدة المعركة وقد ضيق الجيش العربي الأردني الخناق على الصهاينة حتى جاء يوم 28 أيار / مايو وكان صباح الجمعة وقد خرج حاخامان من الحي اليهودي رافعين العلم الأبيض ويطلبان الاستسلام.
ونشر عبد الله التل، أحد قادة الجبهة الأردنية بحرب فلسطين، رأيه عن معركة القدس ونتائجها في مذكراته تحت عنوان “مذكرات عبد الله التل قائد معركة القدس” أكد فيها أن معركة القدس كانت أهم معركة خاضتها الجيوش العربية في حرب فلسطين لأنها أتت بـ”نصر تاريخي لا تنمحي آثاره”، وكانت السبب في بقاء القدس القديمة وما جاورها من الأحياء في يد العرب حتى عام 1967.
وأجمل التل الخسائر الصهيونية بما يزيد على 370 قتيلا صهيونيا من المحاربين المتعصبين بينهم 136 من عصابة “الأرغون”، وجرح 180 وجدهم الجيش العربي في المستشفى وكانت جراح نصفهم خطيرة.
كما أخذ الجيش العربي من الصهاينة 340 أسيرا، وهم العدد المماثل تقريبا لما أخذه الجيش العربي من مستعمرة كفار عصيون.
معركة القدس كانت أهم معركة خاضتها الجيوش العربية في حرب فلسطين لأنها أتت بـ”نصر تاريخي لا تنمحي آثاره”، وكانت السبب في بقاء القدس القديمة وما جاورها من الأحياء في يد العرب حتى عام 1967.
لقد كانت معركة القدس التي يطلق عليها الصهاينة اسم “المعركة من أجل القدس”، معركة حساسة بالنسبة للصهاينة مما دفع بريطانيا إلى سحب الضباط البريطانيين الذين يتولون قيادة وحدات الجيش العربي، في الوقت الذي لا يوجد من يحل محلهم. وعمدت إلى إيقاف جميع إمدادات السلاح والعتاد إلى الأردن، وأوقفت تقديم المساعدة المالية للجيش، مما ألحق ضررا كبيرا في الأردن.
وعين عبد الله التل حاكما عسكريا للقدس في الأول من تشرين الأول عام 1948 وأذاع على الناس البيان التالي: ” يا أهل القدس الكرام: لقد غبت عنكم ولكن من أجلكم. والآن أعود باسم الله والملك والشعب حاكما عسكريا للقدس الشريف. وإني لا أخاطبكم بلغة الحكام، بل كصديق عرف جراحكم وسيحاول ما استطاع تضميدها”.
دعا التل عام 1949 إلى إنهاء السيطرة البريطانية على الجيش الأردني. لكنه دفع ثمن هذا الموقف، فقد اتهم بتدبير مؤامرة ضد الحكومة وتقول مصادر إن البريطانيين وراء “تلفيق هذه التهمة”.
استقال من الجيش احتجاجا على نقله كملحق عسكري بالسفارة الأردنية في لندن وانتقل إلى القاهرة، حيث عاش لاجئا سياسيا هناك لمدة 18 عاما. عاد التل إلى الأردن بعد أن أصدر الملك الحسين بن طلال قانون عفو عام 1956. وتوفي التل بمدينة إربد عام 1973 ودفن بها، وأوصى بنقل رفاته إلى القدس بعد تحرير ها.