زهدي جانبيك
في بداية ثمانينيات القرن الماضي واثناء حضوري تدريبات مكافحة الشغب، تعرفت على مصطلح: “عقلية الغوغاء”…وهو يعني انقياد الفرد لسلوك الجماعة… وتعلمت ان حدة انقياد الفرد لعقلية الغوغاء تزداد كلما ضمن الفرد المشارك في السلوك الجماعي انه لن يتم التعرف عليه ولن يتعرض للعقاب على فعلته… ولاحظت اثناء عملي انه غالبا ما يندم الفرد على مسيره مع التيار، وعدم وقوفه بحزم ضد التيار مهما كلف الامر… لكن : المراجل ما هي تفاطين…
وقد رأيت اثر هذا السلوك في ارتكاب ابشع مذبحة في القرن العشرين في رواندا اثناء عملي ك رئيس فريق تحقيق في المحكمة الجنائية الدولية لجرائم الحرب في رواندا، حيث شارك الالاف في قتل مئات الالاف بالسلاح الأبيض خلال 3 شهور، فقتل الجار الجار… وقتل الزوج زوجته… وقتلت الزوجة زوجها، واطفالها… وانساق الجميع الى التيار الجمعي المحكوم بعقلية الغوغاء.
كنا نستجوب القتلة، وكثيرا ما كانوا يبكون بين ايدينا وهم يقولون بأنهم لا يدرون ما الذي فعلوه، ولا لماذا فعلوه ، ولا كيف فعلوه سوى انهم شاهدوا الجميع حولهم يقتلون ويحرقون… فشاركوهم في القتل والحرق…
هذا هو الإرهاب الفكري باوضح صوره حيث لا يجرؤ الفرد على مخالفة رأي الجماعة فينضم اليها ، وفي احسن الظروف يقف على الحياد… أي يقف صامتا، لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر… مصداقا لقوله تعالى في سورة هود: “فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس فيكم رجل رشيد”…. فكأن عقلية الغوغاء سيطرت على قوم لوط فما عاد منهم من هو قادر على الوقوف ضد تيار الفساد.
وهذا هو ما يتعرض له مجتمعنا خلال العقود القليلة الماضية… حيث استفحل السلوك السلبي ، والخوف من السباحة ضد التيار، والرعب من الاختلاف عن فكر، أو قول، أو سلوك الجماعة… حتى تشكل لدينا أغلبية نرتاح الى الانضمام اليها جميعنا واسميناها الأغلبية الصامتة…. فصار كل من فلَّسَ منا وأعلن استسلامه يبرر استسلامه بأنه جزء من الأغلبية…. الصامتة.
وانتقلت هذه العدوى الى فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي حيث يتجلى الإرهاب الفكري بابشع صوره بين من يسمون أنفسهم : الطبقة المثقفة الذين أصبحوا يشكلون مجموعات الفيسبوك، أو الواتساب التي تتسم بنمط موحد يتمثل بغالبية صامتة غير مشاركة، يقابلها اقلية تقود النقاشات، ويا ويلك ويا سواد ليلك اذا تجرأت وخالفت رأي هذه الاقلية النشطة…
اي رأي تبديه سيتم تصنيفك وفقا له… فأنت سحيج: اذا ابديت اي رأي او فكرة مخالفة للمعارضة.
وانت خائن، أو مندس، أو متآمر اذا ابديت اي رأي او فكرة تتفق مع المعارضة…
باختصار، انت فارغ من الفكر ويتم تعبئتك لتقول ما تقول اذا لم تقل ما يرضيهم…… ومشكلة هؤلاء انهم هم لوحدهم الاحرار وأصحاب الفكر الحر… والآخر:
اما معارض مأجور.
او موالي مستوزر… او مستعين (بدو يصير عين)… او جبان عارف الحق بس ما بدو يحكي… او خايف على الكرسي فلا يقول الحق… او يسعى الى الكرسي فيعترض على كل شيء….
دائما انت فارغ مهما قلت… فرأيك وفكرك ليس رأيك وفكرك لأنك دائما مدفوع من الاخر…
هم… وهم وحدهم أصحاب الفكر الحر والرأي الحر… لأنهم يشتمون، وليس مهماً يشتمون من… المهم انهم يشتمون وكفى…
ولا تظنن يوما انك يمكن أن تكون قد تمكنت من فك شيفرتهم وحلحلة رموزهم… فما يرضيهم اليوم لا يرضيهم غدا… لا لسبب الا لأنك عاجز عن قراءة ما بأنفسهم وعاجز عن التنبؤ بمزاجهم اليومي الذي يحدد ما يحبون وما يكرهون… فلا تتعب نفسك بالمحاولة…. فمثلا قبل أيام تم نشر تسجيل صوتي يثبت قيام أحدهم بالضغط على احد مرؤوسيه للانتقام من مرؤوس آخر بسبب قيام الأخير بتقديم شكوى لدى هيئة مكافحة الفساد…
المجموعة اياها ، ولسبب لا يعلمه إلا هم لم يهاجموا من استغل منصبه… ولكنهم اختاروا مهاجمة من فضح هذا الاستغلال بحجة : ولا تجسسوا.
وحجة لا يجوز تسجيل محادثة دون علم الطرف الآخر…
وحجة خيانة المجالس…
وتم استخدام الآيات القرآنية والأحاديث والاعراف باعتبار ان من قام بتسجيل المحادثة خالف كل القيم…
لم يمر يومين، الا وقام أحدهم بنشر تسجيل صوتي لمحادثة وقام بنشره…
المجموعة اياها نفسها اعتبرت نفس الفعل الذي كان بالأمس خيانة للمجالس، وتجسس، ومخالف للشرع والاعراف والقيم، اعتبرت هذا الفعل بطولة… أيضا لسبب لا يعلمه إلا هم.
وفي الحالتين ، تم سلخ جلد كل من اعترض… وتم اتهامه بأنه يمارس الإرهاب الفكري بنفس اللحظة التي كان يتم ارهابه فكريا….