وطنا اليوم _
بقلم : النائب الدكتور إبراهيم صقر القرالة/ رئيس لجنة التربية والتعليم النيابية
لم أكن يومًا ذا ميولٍ قومية، ولم أشارك يومًا في أحاديث القوميين أو حتى أستمع إليها بانشداد. مرّت أمامي خطابات كثيرة، وشعارات أكبر، ولم يوقظ شيءٌ في داخلي تلك المشاعر التي يتحدث عنها المؤمنون بالفكرة. لكن لقاءً واحدًا كان كفيلًا بأن يعيد ترتيب الأسئلة ويهزّ الوجدان.
في ملتقى الطلبة العرب الدارسين في الجامعات الأردنية، وبرعاية معالي مازن القاضي، التقينا بمعالي عبدالكريم الدغمي، رئيس مجلس النواب الأسبق، بدعوة من رئيس اللجنة التحضيرية سعادة النائب الدكتور حسين العموش. حضر أبو فيصل، فحضر معه التاريخُ بصوته، والتجربةُ بصلابتها، والعروبةُ بعمقها.
بدأ حديثه عن الأردن ومسيرة بناء الدولة ودور القيادة الهاشمية في ترسيخ مؤسساتها، فكان كلامه موزونًا ينبض بالمعرفة والخبرة. لكن نبرة صوته تبدلت حين انتقل إلى الحديث عن الأمة العربية… تلك الأمة التي تنزف منذ عقود طويلة ولا تزال تبحث عن ضمادة تلمّ شظاياها.
وهنا توقّف طويلاً عند فلسطين… الجرح الذي لم يندمل منذ أكثر من سبعين عامًا.
تحدّث عن فلسطين لا كقضية سياسية، بل كقضية وجود، كأمٍّ ثالثة للعرب، وذاكرةٍ مشتركة لكل قلبٍ عربيٍ صادق. تحدّث عن القدس، وعن جدل التاريخ والهوية، وعن محاولات الطمس اليومية. تحدّث عن الأطفال الذين يحملون الحجارة كأنها وصايا أجدادهم، وعن المخيمات التي ما زالت تلد الصبر يومًا بعد يوم.
قال إن فلسطين ليست مجرد ملف يطرح في المؤتمرات ولا بندًا على أجندات الحوارات، بل هي بوصلة الأمة وامتحان صدقها. وإن سبعين عامًا وأكثر لم تكن زمنًا عاديًا، بل زمنًا من الوجع المتراكم الذي أورث الأجيال معنى الفقد ومعنى الثبات معًا.
ومع كل جملة كان يزداد صوته حزنًا، حتى بدا واضحًا أن الحديث عن فلسطين لا يزال قادرًا على كسر صمت الرجال الكبار.
ثم انتقل إلى العراق، إلى العقدين الأخيرين وما سقط فيهما من وجع، إلى غياب القائد وغياب الدور. ومع كل كلمة، كان الألم العربي يتراكم أمامنا، حتى اختنق صوت أبو فيصل… ثم بكى.
بكى مرارًا.
لم أبكِ معه، لكنني شعرت أن شيئًا عميقًا قد تحرّك داخلي. سمعتُ كثيرين من الحزبيين والناشطين، ولم أشعر يومًا بعمق الجرح كما شعرتُ به في تلك اللحظة. دموعه لم تكن دموع رجل سياسة، بل دموع رجلٍ عاش العروبة كقدرٍ لا كخطاب، وكوجعٍ لا كشعار.
لم أكن قوميًا يومًا، ولم أبحث عن هذا الانتماء، لكنني اليوم أدرك أن القومية الحقّة ليست كلمات تُرفع ولا خطابات تُلقى، بل هي إحساسٌ صادقٌ بقضية فلسطين، وبجراح الأمة التي لا تلتئم.
وقد علّمني أبو فيصل، بدمعة واحدة، ما لم تُعلمنيه سنوات من السجالات الفكرية والسياسية.






