وهم معرفة إسرائيل: كيف أسقطت الاستخبارات الإسرائيلية أسطورة الفهم العربي لقدراتها؟

5 ثواني ago
وهم معرفة إسرائيل: كيف أسقطت الاستخبارات الإسرائيلية أسطورة الفهم العربي لقدراتها؟

بقلم نبيل العتوم

ما جرى في إيران ولبنان واليمن…. خلال الشهور الماضية يكشف أن العالم العربي يعيش على هامش المعرفة الحقيقية بقدرات إسرائيل الاستخبارية والتقنية، وأن ما نردده في مؤسساتنا العسكرية والأمنية عن “دراسة إسرائيل” هو في الحقيقة مجرد أوراق ارشيف محفوظة بلا عمق، وتقديرات جامدة يرددها على الفضائيات جنرالات متقاعدين يعانون من الزهيمر المعرفي ، وهي تحليلات لا تقترب من الواقع المتحرك. فاغتيال القائد العسكري لحزب الله بالأمس هيثم علي طبطبائي، كما سبقه اغتيال حسن نصرالله، ثم عمليات التصفية داخل اليمن، والاختراق العميق لإيران عبر كاميرات وشرائح إلكترونية واستخبارات بشرية ، كلها ليست أحداثاً منفصلة، بل جزء من منظومة متكاملة تشير إلى أن إسرائيل تخوض حرباً معلنة بوسائل غير معلنة وغامضة تماما ، وتعمل وفق هندسة استخبارية تتجاوز قدرات خصومها بعدّة أجيال وسنوات .

المشكلة ليست في قوة إسرائيل وحدها، بل في جهل العرب بها. فكلما تعمّقنا في تفاصيل العمليات الأخيرة، ندرك أن إسرائيل تبني قوتها الحقيقية على المعرفة، تسجيل الأنماط، جمع البصمات الرقمية، تحليل السلوك، وخلق صورة كاملة للخصم قبل أن يدخل الحرب. وقد كشفت التسريبات الإيرانية، واعترافات مسؤولي الدفاع والاستخبارات ، أن الاختراق الإسرائيلي لم يكن صدفة ولا ضربة عابرة، بل عملية تراكمية بدأت من بوابة صغيرة: تلفون ، بيجر ، شبكة اتصالات مغلقة او مفتوحة ، كاميرا مراقبة، شريحة الكترونية تم غرسها هنا وهناك ، داتا شاملة من القطاعات الحيوية وغيرها ،تحديث برمجي، أو جهاز بسيط لم يُفحص أمنياً، قبل أن تتحول إلى شبكة رؤية كاملة داخل مؤسسات الحرس الثوري والأمن والاستخبارات في الدول المستهدفة او التي تنتظر استهدافها .

وإذا كانت إيران، بكل بنيتها الأمنية المتشابكة ، قد فشلت في إدراك ما يجري داخل غرفها، فكيف بدول أخرى لا تملك أصلاً منظومات فحص إلكتروني، ولا سياسات فاعلة لسلاسل التوريد، ولا تدريباً متقدما على الحرب السيبرانية؟ ، بينما انشغل خصومها بتقديرات سياسية لا علاقة لها بالواقع العملياتي. والأدهى أن ما كان يقوله بعض الجنرالات العرب اللذين اكل الدهر عليهم وشرب ، والإعلاميين المغمورين عن “ضعف الجيش الإسرائيلي” أو “عدم قدرته على غزو غزة أو ضرب إيران” كان مبنياً على جهل مؤسسي، وجهل بتطورات السنوات الأخيرة، وجعل المنطقة تعيش على مقولات لا علاقة لها بالصورة الحقيقية.

فالجيش الإسرائيلي، رغم كل إخفاقاته في الميدان التقليدي ، يعمل الان بمنظومة عُليا من الدمج بين الاستخبارات، الذكاء الصناعي، القدرات السيبرانية، والمراقبة متعددة المستويات، بحيث يتم استهداف الخصم قبل أن يشعر بوجود تهديد. اغتيال طبطبائي لم يكن عملية تتبّع ميداني، بل نتيجة جمع طويل لمعلومات تتبع وروتين يومي ، ودس الخليلات ، وتكوين صورة للأنماط الرقمية، تحركات، تتبع الهاتف، صور الأقمار الصناعية، كاميرات محيطة، وربما أجهزة تم زرعها منذ سنوات. كذلك اغتيال نصرالله لم يكن مجرّد “اختراق بشري”، بل نتاج تكامل هندسي بين تقنيات الاختراق، تحليل الحركة، وربط مصادر متعددة للمعلومة حتى تكوّنت صورة دقيقة عن موقعه وتوقيته.

العالم العربي لم يدرك بعد أن إسرائيل تحارب بالعقل والتكنولوجيا قبل السلاح، وأن أخطر قدراتها ليست الطائرات ولا الصواريخ، بل قدرتها على الدخول إلى أنظمة الخصوم، تعطيلها، مراقبتها، وتشكيل بيئة عملياتية تجعل الهدف مكشوفاً كما لو كان يتحرك في غرفة شفافة. ما حدث في اليمن كذلك نموذج واضح: اغتيالات لم يتمكن أحد من تفسيرها بالطرق التقليدية، لأنها تمت من خلال اختراق منظومة الاتصالات، تحديد المواقع الفعلية، واستخدام الذكاء الصناعي للتعرّف على الانماط الحركية للقيادات. وفي لبنان، لم يعد حزب الله يمتلك القدرة على المناورة كما كان يفعل، ليس بسبب نقص المال والسلاح الايراني فقط، بل لأن إسرائيل باتت تعرف أين ينام قادته، ومع من ،أين يتنقّلون، وبماذا .. وكيف تتحرك وحداتهم، عبر شبكة اختراقات صنعتها على مدار سنوات.

المؤسف أن مؤسساتنا العربية العسكرية والاستخبارية والسياسية ما زالت تكرر أسطورة أننا “ندرس إسرائيل جيداً”، بينما الواقع يؤكد أننا ندرس إسرائيل القديمة، إسرائيل الثمانينات والتسعينيات، لا إسرائيل اليوم التي تبني صواريخها عبر الذكاء الصناعي، وتخوض نصف معاركها عبر الخادم الإلكتروني، وتجمع معلومات خصومها من الهواتف والأبراج والشرائح والبرمجيات أكثر مما تجمعها من العملاء التقليديين. فجوة المعرفة بين إسرائيل والبيئة العربية تتسع بشكل كبير ، ليس لأن إسرائيل تتقدم فقط، بل لأن العالم العربي ثابت عند تصوّرات لم تعد لها قيمة عملياتية …

ما جرى في إيران ولبنان واليمن ليس انتصاراً تقليدياً، بل إعلان واضح بأن المنطقة دخلت عهد الحرب الاستخبارية الكاملة، وأن إسرائيل باتت قادرة على تغيير المعادلات من دون أن تحشد جيشها. وفي المقابل، يكرر العرب مقولات مريحة لا علاقة لها بالواقع: إسرائيل ضعيفة، إسرائيل غير قادرة على خوض حرب برية ، اسرائيل تعتمد على قدراتها الجوية ، إسرائيل تخشى الرد. وكل عملية جديدة تثبت العكس تماما ، وتكشف أن غياب المعرفة أخطر من غياب السلاح، وأن الجهل بقدرات الخصم هو بداية الهزيمة.

المعادلة اليوم بسيطة: إسرائيل تعرف خصومها أكثر مما يعرفون أنفسهم، والعالم العربي يكتفي بقراءة الماضي بينما تُصنع الحرب في الحاضر. وفي ظل هذه الفجوة، ستبقى إسرائيل قادرة على تغيير قواعد اللعبة في اي وقت تشاء ، واغتيال قيادات، واختراق دول كاملة، بينما يواصل العرب الحديث عن “دراسة إسرائيل”و” فهم اسرائيل “”تحليل السلوك الاسرائيلي ” دون أن يدرسوا شيئاً سوى السراب في الحقيقة.