وطنا اليوم _
كتب: ليث الفراية
هناك رجالٌ يولدون من طينة الوطن لا من صدفة الوظيفة رجالٌ لا يمكن اختزالهم في منصب أو رتبة أو توقيع على ورقة قرار؛ بل هم ملامح ممتدة في ذاكرة الدولة، علامات على الطريق، وأثرٌ لا يُمحى مهما تعاقبت الأيام وتبدّلت الوجوه ومن بين هؤلاء الرجال يقف اللواء المتقاعد الدكتور تامر المعايطة، شجرةٌ أمنية نمت جذورها في الأرض الأردنية، وارتفعت أغصانها في سماء المؤسسة، حتى صار اسمه مرادفًا للانضباط والعقل والخدمة التي تُمارس بضمير لا يصدأ.
تامر باشا المعايطة لم يكن يومًا من أولئك الذين يطرقون أبواب الشهرة، ولم يطلب لنفسه أكثر مما يليق بجنديّ يقف في صف الوطن حيث كان يمشي بثقة هادئة، لا صخب فيها ولا مبالغة، لكنها تحمل تلك الهيبة التي لا تحتاج إلى بطاقة تعريف هيبة الرجل الذي يعرف لماذا يرتدي البزة العسكرية، ولماذا يضع على كتفه رتبة هي في الحقيقة مسؤولية لا يتقن حملها إلا من تربّى على معنى العهد والوفاء.
في كل محطة من حياته، كان الباشا المعايطة يؤكد أن رجل الأمن الحقيقي ليس ظِلّ سلطة، بل ظلّ وطن وأن الحزم الحقيقي لا يُقاس بارتفاع الصوت، بل بثبات الموقف وأن الخدمة الأمنية ليست وظيفة، بل قدرٌ يختبر صبر صاحبه كل يوم.
في زمنٍ تتغير فيه المفاهيم وتتبدّل فيه النظريات، بقي الباشا تامر المعايطة ثابتًا على قاعدة واحدة “أن الأردن قبل كل شيء، وفوق كل شيء، وبعد كل شيء” هذا الوطن الذي صقل ضباطه بعرق ميدان، لا بترف مكاتب، جعل من المعايطة واحدًا من أولئك الذين يمشون وعلى أكتافهم حكايات طويلة من الليل المتعب، والنهارات الحارّة، والدقائق التي كانت بين الأمن والفوضى شعرة واحدة عرف الميدان، وعرف الناس، وعرف القانون لكنه قبل كل ذلك عرف “القيمة الحقيقية” للانتماء.
ولأن الانتماء ليس شعارًا، كان الرجل يقدم ولاءه بصوتٍ منخفض، لكنه ثابت كالصخر، صادق كقسم الجندية، لا يختلف عليه اثنان.
في عالم الأمن، كثيرون يفهمون السلطة، وقليلون فقط يفهمون الخدمة لكن النادرون هم الذين يجمعون بين الاثنين حيث كان الباشا المعايطة واحدًا من تلك الفئة النادرة فهو يعرف أن رجل الأمن يحمل على كتفيه قوة القانون، لكن في قلبه يجب أن يحمل رحمة الوطن ويعرف أن فرض النظام ضرورة، لكن كسب ثقة الناس بطولة ويعرف أن الدولة تُصان بقوتها، لكنها تُحترم بعدلها.
ولذلك، حين تحدث عن جدلية السلطة والخدمة، لم يكن يتحدث كنظريٍّ يقرأ المفاهيم من الكتب، بل كضابط عاش التفاصيل وعرف أن أقسى المواقف تحتاج أحيانًا إلى أرقّ القرارات.
تحدث بصراحةٍ نادرة عن صفّارات الإنذار، وعن إجراءات الدولة، وعن الطوارئ، وعن لحظات تُقاس فيها حياة الناس بثوانٍ معدودة وكان يؤكد بأن “الأمن ليس خيارًا بل التزام قانوني لحماية الجميع وأن الدولة حين تُطلق صفارة إنذار، فهي لا تصنع ضجيجًا، بل تُطلق رسالة حياة هذه الرؤية لم تكن ترفًا، بل كانت امتدادًا لفلسفة رجلٍ عاش معادلة الأمن من داخلها رأى الخطر، وعرف المسؤولية، وقرأ القانون بوعي، وبصيرة، وحرص على تفسيره للناس بلغةٍ يفهمها الجميع لغة العقل.
وحين جاء يوم التكريم من الأمن العام، كان المشهد بمثابة ختم رسمي لمسيرة لم تبحث يومًا عن التصفيق كان تكريمًا لرجلٍ لم يطلب شيئًا لنفسه، لكنه أعطى الكثير وكان دليلًا على أن المؤسسة تعرف أبناءها، وتحفظ وجوه الذين خدموا بشرف حيث خرج الباشا المعايطة من الخدمة لكنه لم يخرج من ذاكرة المؤسسة، ولا من صفحة الرجال الذين كتبوا أسماءهم بعرقٍ لا يجف.
غادر المعايطة مكتبه، لكنه لم يغادر موقعه في قلب الدولة …غادر الرتبة، لكنه لم يغادر معنى الولاء … غادر المسؤولية المباشرة، لكنه لم يغادر دوره الوطني الذي لا يتقاعد فالرجال الكبار لا يتركون مكانًا فارغًا خلفهم، بل يتركون إرثًا وإرث اللواء تامر المعايطة ليس أوراقًا ولا ملفات بل قيمة و صورة و قصة رجلٍ خدم وطنه كما لو أنه خدم نفسه.






