بقلم: د. إبراهيم النقرش
منذ سنوات، أطلق دولة عمر الرزاز عبارته الشهيرة مخاطبًا الشباب الأردني: “لا تهاجر يا قتيبة”. كانت تلك الجملة أشبه بنداء أبوي، يوحي بأن الوطن يتّسع لأبنائه وأن الأمل ما زال ممكناً. صبر “قتيبة” حينها، انتظر، لكن السنين مضت، والبطالة اتسعت، …حتى فاض صبره فهاجر, إلى بلاد العم سام، بحثًا عن حياة، فوجد نفسه مولودًا غير شرعي في وطنٍ لا يعترف بوجوده ….ووجد “الرزاز” قد سبقه ..ابنًا شرعيًا لذلك العالم الذي هاجر اليه “قتيبة”.
واليوم، وبعد أعوام من تلك المقولة، يخرج علينا وزير الداخلية بتصريحات يدعو فيها أوروبا إلى فتح أبواب الهجرة الشرعية للكفاءات الأردنية في مجالات التكنولوجيا والصحة والقطاعات الحرفية. تصريح بدا وكأنه نقضٌ مباشرٌ لحديث الأمس، وكأن الدولة تقول لشبابها اليوم: “هاجر يا قتيبة”. فهل يعقل أن تنتقل السياسة الرسمية من دعوة للبقاء إلى تشجيع على الرحيل؟
هذا التناقض في الخطاب الرسمي مرآة لعجزٍ إداري عميق. إنه انعكاس لغياب التخطيط الاستراتيجي، وتغليب الاجتهادات الفردية على منهج الدولة المؤسسية. فكيف لدولة تدّعي محاربة البطالة أن تشجع على تصدير شبابها المدرب والماهر ؟ “انه العجز والعقم الفكري… فكيف تفرّط بالكفاءات التي تمثل رأسمالها الحقيقي وركيزة اقتصادها المستقبلي؟
من منظورٍ اقتصادي بحت، فإن هجرة الكفاءات ليست إنجازًا بل” كساد وركود ذهني” ونزيفًا وطنياً يفرّغ الاقتصاد من دمائه الحية. فكل مهندس، طبيب، أو مبرمج يغادر الوطن هو خسارة مزدوجة: خسارة لاستثمار الدولة في تعليمه وتدريبه، وخسارة لإنتاجه المستقبلي الذي كان يمكن أن ينهض بالاقتصاد الوطني.
فهل يعقل أن تُدرّب الدولة أبناءها لسنواتٍ ثم تهدي ثمارهم لاقتصاداتٍ أجنبية؟
عندما يسمع الشباب تصريحًا رسميًا يقول إن عليهم الانتظار 73 عامًا للحصول على وظيفة، فإنهم يدركون أن الدولة فقدت وعيها وانحرفت بوصلتها وتكلّست مفاصلها ، بل رمزٌ للشلل الهيكلي الذي أصاب سوق العمل. فالمشكلة لم تعد في الشعب أو في قدرات الشباب، بل في من تولى أمور الشعب.
الفساد الإداري والبيروقراطية والمحسوبية حوّلت المؤسسات إلى تركاتٍ تُورَّث لا إلى مؤسساتٍ تُدار بالكفاءة. وزارة العمل – التي يُفترض أن تكون حامية لحقوق الشباب – أصبحت تدافع عن كل هذه السقطات وتشير بالهجره وتبرر لها، وكأنها تُصدر شهادة وفاة لقدرتها على خلق فرص عمل داخلية.
حين يتحدث مسؤول في موقعه هذا .. عن الهجرة وكأنها حلٌّ اقتصادي، فإننا نكون أمام انحراف في أولويات الدولة وتخصص وزاراتها , فالهجرة لا تُصلح الاقتصاد، بل تفرغه من عناصر بنائه واستقراره.
إن تفريغ البلد من نخبه الشابة المتعلمة يعني تهديدًا للأمن الديموغرافي والاقتصادي. فالشباب هم القوة الإنتاجية، والمصدر الرئيس للابتكار والتجديد. وإذا غادروا، سيبقى الوطن يشيخ اقتصاديًا واجتماعيًا، وتتحول مؤسساته إلى هياكل بلا روح..
الأزمة لا تُحل بتصدير الكفاءات، بل بإدارة الموارد الوطنية بكفاءة وأمانة. الحل في بناء بيئة اقتصادية تشجّع الإنتاج والابتكار.
نحتاج إلى اقتصاد إنتاجي….إلى إرادة اصلاح سياسية حقيقية تؤمن بأن الوطن لا يُدار بالمجاملات بل بالكفاءات.
“قتيبة” كان رمزًا لجيلٍ كامل حُرم من حقه في الأمل.
جيلٌ يعيش رهين المحبسين: محبس البطالة في الداخل، ومحبس الغربة في الخارج.
جيلٌ ينتظر دولة تعترف بقدراته، لا دولة تبرر فشلها بتصديره.
يا دولة الرئيس، هل تعلم أن “قتيبة” الذي طلبت منه أن لا يهاجر، يعيش اليوم في الغربة كلاجئ اقتصادي، بينما أنت وابنك تعيش في بلاد الأنكل سام كمواطن افتخاري , ترفل في المناصب”في ثوب الدمقس المفتل”؟
الفرق بينكما أن أحدكما هاجر مختارًا مُنعّما ، والآخر هُرّب مضطرًا مُسخّما.
يا دولة المسؤولين،
لا تقولوا للشباب “هاجروا”، بل أصلحوا ما يدفعهم للهجرة.
فالوطن الذي يُهجّر أبناءه، يطرد مستقبله معهم.وإذا كنتم عاجزين عن إدارة البلاد والعباد، فارحلوا ودعوا الفرصة لمن يستطيع أن يبني وطنًا لا يبيع أبناءه في سوق الهجرة.






