د. هاني العدوان
وزارة الداخلية في الأردن ليست مؤسسة إدارية تؤدي واجبها الروتيني ولاجهة حكومية تختص فقط بالأمن والنظام، بل هي الركن الصلب في بنية الدولة وميزانها الدقيق الذي يحفظ توازنها بين القانون والإنسان
هي نبض الوطن في حركته اليومية والعين الساهرة التي ترى ما وراء الأرقام والنصوص لتلامس واقع الناس وتفاصيلهم
إنها روح الدولة الحية ومجس نبضها الاجتماعي والسياسي والإنساني ومن خلالها تُقاس قوة الدولة وهيبتها وحكمتها في آن واحد
في ظل وجود الوزير مازن باشا الفراية استعادت وزارة الداخلية معناها العميق بوصفها بيت الأردنيين جميعاً وجسراً بين المواطن والدولة ومؤسسة تعمل بصمت بعيداً عن الأضواء لكنها حاضرة في كل تفاصيل الوطن من شماله إلى جنوبه ومن البادية إلى الأغوار
اُقسم انني لا أعرف الفراية لكنه بالنسبة لي نموذج في التواضع والانضباط والمسؤولية
رجل لا يبحث عن عدسات الكاميرات بل يبحث عن موطئ وجع في الميدان ليعالجه وعن فكرة وطنية ليبني عليها
وزير يكرس مفهوم “الحاكم الإداري الشريك” والميدان ممارسة يومية تستند إلى قيم الوفاء والانتماء والإخلاص للقيادة الهاشمية وللشعب الأردني الطيب
تجلت رؤية الوزير في ترجمة التوجيهات الملكية السامية إلى نهج إداري ميداني يرسخ الأمن بمفهومه الشامل لا الأمن العابر للحدود فحسب بل الأمن الاجتماعي والاقتصادي والروحي والنفسي للأسرة الأردنية، فالأمن كما يراه الفراية لا يبدأ من بوابة المركز الأمني بل من بوابة البيت والمدرسة والمجتمع
اليوم شهدت نشاطاً نوعياً في مركز التدريب المهني في شفابدران وأبو نصير بالتعاون مع جمعية سيدات شفا بدران الخيرية وتحت رعاية متصرف لواء الجامعة السيد رامي البدر
تتجسد معاني هذه الرسالة الوطنية على الأرض
كان المتصرف كما عرفناه دوماً رجلاً ميدانياً نشيطاً مثقفاً عميقاً، لا يرضى أن يكون موظفاً خلف مكتب بل قائداً في قلب الميدان
كلمته اليوم كانت مختلفة… كانت كلمة وطن تحدث بعفوية صادقة عن التعليم ومخرجاته، وعن الثقافة السلبية التي جعلت من الشهادة هدفاً بحد ذاتها لا وسيلة للعطاء، وعن التهافت على التخصصات الجامعية التي صارت عبئا بعد ان كانت طموحات
أشار بوضوح إلى أن الوطن يكاد يفرغ من أرباب المهن، وأن الفجوة بين التعليم وسوق العمل باتت تهدد أمننا الاقتصادي والاجتماعي
كلمته كانت امتداداً لنهج وزارة الداخلية في رؤية شمولية للمجتمع ترى أن البطالة صارت قلقا في بيت كل أردني
هذا الفهم العميق هو ما يميز رجال الميدان الحقيقيين الذين يسيرون على خطى الوزير الفراية، فينهلون من توجيهاته التي تدعو إلى الاقتراب من المواطن والبحث عن مشاكله في التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة
لقد شدني كثيراً هذا الرجل الخلوق رامي البدر الذي جمع بين الفكر المستنير والثقافة العميقة والأخلاق الرفيعة
رجل يأسر القلوب بلطفه الجم وتواضعه البالغ ، يحاور الناس كأخ ويصغي إليهم كأب ويتعامل معهم كصديق
صدقاً لن ترى مشكلة قائمة أمام هذا المستوى من الأخلاق والثقافة لأنه يؤمن أن الحل يبدأ بالكلمة الطيبة، وأن المسؤول الحقيقي هو من يحمل قلباً واسعاً قبل أن يحمل لقباً وظيفياً
سعة أفقه واضحة في كل تفاصيل حديثه، يتحدث عن البطالة بلغة الأمل وعن الشباب بلغة الفرص وعن الوطن بلغة الحب
يجمع في شخصه بين الحزم الإداري والدفء الإنساني، وبين الفكر الراقي والنهج العملي
وما كان ليكون كذلك لولا أنه أحد أبناء مدرسة داخلية تؤمن بأن القيادة ليست سلطة بل مسؤولية ورسالة
الجولة التي رافقنا فيها عطوفة المتصرف داخل مرافق المركز المهني كانت مشهداً مهيباً من الإخلاص والانتماء
ورش تدريبية مجهزة بأحدث الأدوات، مدربون ومدربات على مستوى رفيع من الكفاءة، وشباب وشابات يتعلمون الحرفة والمهنة ليكونوا شركاء في بناء الوطن
هناك كان المتصرف يسأل، يناقش، يوجه، ويكتب الملاحظات، ويتحدث عن أهمية التنسيق مع الجهات المعنية لتذليل أي عقبة
كان مسؤولاً يعيش الميدان ويفكر بمستقبل الناس
سألته أمام الحضور عن سر هذا النشاط والتفاني، أجاب بكلمات تلخص فلسفة وزارة الداخلية في عهدها الحالي
“هذا واجبنا، ولكن قبل ذلك هي توجيهات وتعليمات من وزيرنا معالي مازن الفراية، الذي لا يكل ولا يمل من تذكيرنا بالرسائل الوطنية، بأن نكون إلى جانب المواطن، نحل مشاكله، ونبادر ونبدع
ما نقوم به اليوم هو من صميم رسالتنا كحكام إداريين، أن نعظم أي إنجاز وطني، وأن نكون جزءاً من الحل لا من المشكلة”
هذه العبارة تختصر المعنى الحقيقي للإدارة الميدانية الحديثة
إنها المدرسة التي أسسها الوزير الفراية والتي أعادت للحاكم الإداري دوره الحقيقي التفاعل بعد أن كانت بعض المناصب الإدارية قد انكمشت خلف المكاتب
اليوم نراها تتحرك على الأرض، تنجز وتبادر وتستمع وتعمل بروح الفريق الواحد تحت المظلة الملكية
ولعل أجمل ما قاله عطوفة المتصرف في كلمته “الخريج العاطل عن العمل هو ابني وابنك وابن عمي وابن عمك، كلنا في هذا الوطن أسرة واحدة، ما يقلقك يقلقني، ويقلق وزير الداخلية قبلي، ويقلق الحكومة ويقلق جلالة سيد البلاد”
بهذا الوعي الإنساني تتحول الإدارة إلى رسالة وطنية، ويصبح العمل العام عملاً أخلاقياً قبل أن يكون وظيفياً
لقد كان لافتاً أيضاً ما كشفه المتصرف عن مبادرة إعداد بانوراما ثقافية وسياحية وتاريخية للواء الجامعة، تسلط الضوء على المواقع الأثرية، والرموز الوطنية، والأعلام الذين مروا من هنا، ومن بينهم الفارس والشاعر العربي نمر بن عدوان، الذي يرقد في شفابدران وتبقى حجارة قبره شاهدة على مجده وشعره الخالد
مبادرة كهذه تُظهر كيف تفكر وزارة الداخلية بعقل الدولة لا بعقل الوزارة
كيف توظف الإدارة لخدمة الثقافة والتاريخ والانتماء، لا لحراسة الروتين
إن الأردن اليوم أحوج ما يكون إلى هذه الروح الميدانية التي تجسدها وزارة الداخلية، قيادةً وكوادر وحكاماً إداريين، روح تعرف أن الأمن لا يتحقق إلا بالعدل، وأن العدالة لا تُصان إلا بالإحساس العميق بمشكلات الناس
أما عن التعليم ومخرجاته، فالمشهد واضح آلاف الخريجين بلا عمل، وسوق يعاني نقصاً في الحرفيين وأصحاب المهن
لقد أنتجنا جيلاً يحمل الشهادات لكنه فقد المهارة، فازدادت البطالة وتراجع الإنتاج، والبديل المنقذ اليوم هو ما رأيناه في تلك المراكز المهنية التي وفرتها الدولة مؤسسات تبني الإنسان المنتج، وتعيد الاعتبار للمهنة، وتفتح للشباب أبواباً مشرعة للعمل والكرامة
هذه المراكز هي مصانع للأمل ومشاعل للكرامة الوطنية، وخط الدفاع الأول ضد الفقر والبطالة
إنها صمام الأمان الذي يعيد التوازن بين التعليم والعمل، بين الحلم والواقع
وهنا تتجلى مرة أخرى رؤية وزارة الداخلية بوصفها وزارة “الإنسان” قبل أن تكون وزارة “الحدود”، ووزارة “المجتمع” قبل أن تكون وزارة “القانون”
إنها الوزارة التي تحرس أمن الوطن بالعقل قبل السلاح، وبالميدان قبل المكاتب، وبالضمير قبل التعليمات
ولأن القيادة تُقاس بالأخلاق لا بالألقاب، كان لا بد أن نذكر الحقيقة كما هي
مازن الفراية لم يأت إلى الوزارة بموكب فخم ولا بسيارة فارهة، بل جاء من رحم الشعب ومن غبار الميدان، حاملاً شعار الجيش الأردني، ومؤمناً أن القيادة خدمة لا امتياز
جاء بروحه العسكرية التي تعرف معنى الانضباط والتضحية، واحتفظ بتواضعه الذي يجعل الناس تلتف حوله وتثق به
لم يأت بمرسيدس فاخرة، بل على ظهر “روفر عسكري” يعرف دروب الوطن ووعورته، ويعرف أن المسؤول الحق لا يقود من الكرسي، بل من الميدان
هكذا تُكتب رسالة الدولة العظيمة وهكذا يُصاغ معنى الانتماء في وطن صغير بحجمه كبير برجاله
وزارة الداخلية الأردنية في عهدها الجديد، ليست مؤسسة أمنية فحسب، بل عقل الدولة الاجتماعي وروحها الإنسانية وسواعدها في الميدان
وحين تتوحد الرسالة بين القيادة والوزارة والمجتمع، يصبح الوطن كله خلية عمل لا تعرف إلا الإخلاص ولا تؤمن إلا بالإنجاز
ذلك هو الأردن… وطن الرسالة والإنسان والكرامة
وتلك هي وزارة الداخلية… مدرسة الوفاء والانتماء






