بقلم د. هاني العدوان
قبل أيام نشرت مقالا بعنوان مصافحة الملوك.. كبرياء بلغة الصمت
تناولت فيه مشهد جلالة الملك عبدالله الثاني وهو يصافح الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب في شرم الشيخ، كانت المصافحة بمثابة لغة سياسية راقية تختصر الكبرياء بالسكوت والهيبة بالصمت وتعلن أن الندية لا تقال وإنما تُرى
كان الموقف شامخا والمقال وجد صداه في كل مكان وتداوله كثيرون لما حمله من معان عميقة في زمن عز فيه الثبات
لكن بعد نشره وصلتني رسالة على الواتس أب من صديقي مقيم في القدس يقول فيها “الله يسعد مساك… المشكلة يا صديقي بتنزل كلام وبتكتب عكسه تماما”
وكأنه يرى أن من يكتب عن غزة والمقاومة لا يجوز أن يكتب عن الملك والوطن
وكأن الحديث عن القضية الفلسطينية يستلزم الطعن في القيادة الهاشمية أو أن حب فلسطين لا يكتمل إلا بكره الأردن
يا للعجب ما هذا الحقد وما هذا النكران للجميل ومن قال إن مناصرة غزة تتناقض مع دعم الأردن
من قال إن الدفاع عن الوطن يعني خيانة القضية ومن الذي فوض البعض أن يحتكر الوطنية ويصادر صوت العروبة
لقد بلغ بنا الأمر أن يُتهم الأردني الوطني إن كتب عن قيادته بأنه يمالئ السلطة وأن يُتهم إن كتب عن غزة بأنه يتنكر لوطنه
وكأن الحياد الإنساني جريمة وكأن الإنصاف لا يسكن إلا في جيوب الأيديولوجيا
نحن نكتب عن فلسطين لأننا نؤمن بعدالتها ونكتب عن الأردن لأننا نعرف فضله، والاثنان في قلب واحد لا يفترقان
فمن لا يرى دور الأردن التاريخي في حماية فلسطين والعروبة فقد أعماه الغل وأخرسه الجحود
أي إساءة ارتكبها الأردن تجاه غزة، من الذي كسر الحصار عنها في أشد أيام الحرب
من الذي أرسل آلاف الشاحنات المحملة بالغذاء والدواء والماء والملابس
من الذي خاطر بطائراته وجنوده ليصل المساعدات إلى قلوب غزة المحاصرة
إنه الملك عبدالله الثاني الزعيم العربي الوحيد الذي غامر بنفسه ورافق رجاله في عمليات الإغاثة متحديا صواريخ الكيان وطائراته غير آبه إلا بكرامة الإنسان وواجب الأخوة
إنها مواقف حقيقية لقيادة تتقدم الصفوف في زمن ندر فيه الفعل وكثر فيه الكلام
من الذي وقف مع القدس في وجه كل محاولات التهويد
من الذي تحمل عبء الوصاية على المقدسات الإسلامية والمسيحية منذ عهد الشريف الحسين بن علي وحتى اليوم
من الذي رفض المقايضة على تراب القدس وحقها وقداستها
إنه الأردن بقيادته الهاشمية لم يتخل عن دوره يوما ولم يساوم على عهد أو أمانة
ومن يجهل ذلك أو يتجاهله فمشكلته ليست في المعرفة بل في النوايا
أما اللاجئون الذين فرت بهم الحروب فليتذكر العالم أن الأردن استقبلهم واحدا تلو الآخر، الفلسطيني ثم العراقي ثم السوري ثم اليمني والليبي وقبلهم الشركس والشيشان حتى صار هذا الوطن الصغير بحجمه كبيرا بإنسانيته تحمل ما لا تتحمله دول كبرى
فتح بابه للجميع رغم شح الموارد وضعف الاقتصاد وتراجع الخدمات ولم يغلق يوما بابه في وجه الملهوف أو المظلوم
أي دولة في العالم تحملت ما تحمله الأردن من عبء اللجوء ومع ذلك لم يرفع صوته شكوى بل رفع رايته عونا وإخاء
نعم نحن ننتقد السياسات ونغضب من الحكومات المتعاقبة ونسخط على الفساد وتغول الإدارات، ونطالب بإصلاح إداري واقتصادي وعدالة اجتماعية، فهذا واجب الوطني المخلص
لكننا لا نقبل أبدا أن يُمس رأس الدولة ولا أن تُنال القيادة الهاشمية التي كانت وما زالت صمام أمان هذا الوطن وركيزة استقراره
من يهاجمها ظنا أنه ينصر الفقراء أو يدافع عن القضية فهو كمن يطفئ السراج ليبحث عن الضوء في العتمة
القيادة الهاشمية ليست معصومة لكنها لم تخن ولم تساوم ولم تتاجر بدماء أحد
الأردن كان وسيبقى قلب الأمة النابض، وقف مع الجميع حين تفرق الجميع ودافع عن قضايا العرب حين سقطت الأقنعة
لم يزايد ولم يتاجر بل مارس العروبة بمسؤولية وشرف
من يهاجم الأردن لا يريد خيرا للأردن ولا لفلسطين بل يريد مزيدا من الانقسام والتخوين والتشويش
هؤلاء لا يخدمون القضية بل يزيدونها قضايا ولا ينصرون المظلوم بل يضاعفون المأساة بجهلهم وصراخهم
نحن نريد الإصلاح نعم نريد العدالة نعم، نريد التغيير نحو الأفضل نعم، لكننا لا نريد الهدم ولا نقبل الفتنة ولا نرضى بأن يتحول الوطن إلى ساحة حقد وشتم بين أبناء البيت الواحد
الأردن للجميع والقيادة الهاشمية عنوان تاريخه وجدار أمنه وسقف كرامته
من أراد صداقتنا على هذا المبدأ فأهلا ومرحبا به ومن ضاق صدره من حبنا لوطننا وقيادتنا فمع القلعة ولا مكان لاسمه في دفاترنا ولا في ذاكرة الأرض التي سقيناها بعرقنا وإخلاصنا
الأردن لا يزايد ولا يساوم ولا يخون بل يثبت حيث يجب أن يثبت ويفعل حيث يعجز غيره عن الفعل، ويظل كما عرفناه دائما وطن الموقف وبيت العروبة وملاذ الملهوف وعرين القيادة التي لا تنكسر أمام الرياح
ومن لا يرى كل ذلك فمشكلته ليست في النظر بل في البصيرة