على عتبات مئوية ثانية…أية تحديات تجبه “الجماعة”؟!

54 ثانية ago
على عتبات مئوية ثانية…أية تحديات تجبه “الجماعة”؟!

كتب: عريب الرنتاوي، مدير مركز القدس للدراسات السياسية
لم تنقضِ المئوية الأولى لجماعة الإخوان المسلمة، برداً وسلاماً على التنظيم الأشهر والأكبر في العالم العربي…فيها، وعلى إثر سقوط “الخلافة”، نشأت، .وخلال عقودها العشرة، تمددت وانتشرت، وعن يمينها وشمالها، انبثقت أحزاب وجماعات وتيارات، وعبر مراحلها المتعاقبة، انخرطت في حروب وصراعات ونزاعات، بعضها مع خصوم الداخل، وبعضها الآخر، مع أعداء الخارج…أقامت تحالفات من مختلف الألوان، ومع شتى المرجعيات…أما المراجعات، فقد تفاوتت بين مشرق العالم العربي ومغربه و”نيله”، حيث شهدنا ولادة حركات وزعامات، تخطت خطابها التأسيسي وتجاوزته، لتدشن طبعات مختلفة من ظاهرةٍ ستعرف باسم “الإسلام السياسي”، تتنوع مدارسها، لكنها في الغالب، صُنعت من “القماشة” ذاتها، بعد أن خضعت لعمليات قص وتكييف ودباغة.
لسنا بصدد إجراء “جردة حساب مع التاريخ”، لنسجل ما للجماعة وما عليها، أو لنرصد تقلبات وجهها في السماء وعلى الأرض، فما يهمنا في هذا المقام، استعراض التحديات التي تجبه الجماعة، وهي تدلف عتبات مئويتها الثانية، حيث تتعاظم عمليات “الشيطنة” و”الدعشنة” وتتوالى القرارات والإجراءات بحل الجماعة في أكثر من بلد، وتتناسل المطالبات من داخلها ومن قبل بعض من حلفائها، بحل الجماعة لنفسها، أو على الأقل التخلي عن اسمها التي التصق بها التصاقاً عضوياً، وتسارع تنظيمات رديفة، انبثقت في الأساس عن “المنظمة الأم”، إلى التنصل منها، وإعلان البراءة من أي صلة تنظيمية بمركزها، أو على الأقل، إظهار مسافة تباعدها، وتميّزها عنها.

شيء من التاريخ
يسبق تأسيس جماعة الإخوان المسلمين (1928)، نشوء واستقلال معظم دول الإقليم العربي، وهي رأت النور، قبل أن يشق “الوعد المشؤوم” طريقه لإنشاء أكثر الكيانات الاستعمارية بشاعة في التاريخ: إسرائيل…تعاملت مع عهود ملكية وسلالية، ومع جنرالات و”قبضايات” اغتصبوا السلطة على ظهور دباباتهم وشاشات تلفزيوناتهم – زمن الأبيض والأسود – وأثير موجات إذاعاتهم المتوسطة والطويلة، قبل اختراع “الإف إم”…وبهذا يصح القول، أن تاريخ الجماعة، هو بصورة من الصور، تاريخ المنطقة العربية، وربما ما وراءها.
على الدوام، كانت الجماعة في قلب الصراعات العربية البينية، ولاحقاً ستصبح لاعباً من ضمن لاعبين كثر، على الساحتين الإقليمية والدولية…في البدء، زمن التنافس بين الملكيات العربية، وقبل انتشار الجمهوريات و”الجملوكيات”، لعبت بعض العواصم بورقة الجماعة، لتعزيز دورها ونفوذها، ولعبت الجماعة على ورقة التنافس بين حفنة من الدول العربية لم تكن لتزيد عن أصابع اليد الواحدة، قبل أن تدخل في مرحلة ما بعد النكبة، وما بعد الحرب العالمية الثانية، وسنوات الحرب الباردة، فتنحاز الجماعة، لمعسكر في مواجهة آخر، تُستعدى حتى الاستئصال، من قبل فريق محسوب على الشرق، وتُحتضن بأبوية حنونة من بعض عواصم فريق محسوب على الغرب.
طيلة هذا العقود الستة، الممتدة من التأسيس حتى سقوط الاتحاد السوفياتي، لم تكن الجماعة، لتفقد حواضنها وداعميها، في العالم العربي، وفي الغرب، الذي نظر إليها كحليف طبيعي في مواجهة المدّ الشيوعي والقومي (البعثي – الناصري)…كانت الانقسامات الدولية والعربية، توفر للجماعة، هوامش حركة وسبل بقاء وتمدد، برغم حملات “الشيطنة” و”الاستئصال” التي كانت تتعرض لها بين حين وآخر، في هذه الدولة أو تلك…اليوم، تبدو الصورة مختلفة تماماً…كثرة من العواصم العربية تُدرج الجماعة على “قوائم الإرهاب”، وتطاردها كما طاردت الصين كونفوشيوس زمن ثورة ماو الثقافية…وليس من بين هذه العواصم من هو على استعداد للجهر بعلاقة مع الجماعة، أو دعمه لها، أو دفاعه عنها…والهوامش التي تمتعت بها الجماعة زمن الربيع العربي، في بعض عواصم العرب والإقليم، تبدو ضيقة للغاية، وتزداد ضيقاَ تحت ضغوط الداخل والخارج.
وتوازياً مع الحملات العربية – الأشد مضاءً – على الجماعة، تطور عواصم الغرب، الأوروبي-الأمريكي، خطاباً وسلوكاً، يضع الجماعة في بؤرة الاستهداف، إذ يجري تصنفيها جماعة إرهابية، ويجري تحميلها أوزار ما فعلته القاعدة وداعش، وربما “بوكو حرام” نيجيريا و”شباب” الصومال، وتُطارَد مؤسساتها المالية والدعوية والتربوية، وبصورة تكاد تستلهم ما يجري في عواصم العرب من عمليات مطاردة، لا تقيّدها سلطة قانون ولا تضبطها قوة منطق.
في تاريخها القديم والحديث، تعرضت الجماعة مرات عديدة، لقرارات الحل…في مصر، موطنها الأصلي، حُلّت أول مرة، زمن النقراشي (1948)، وزمن عبد الناصر (1954) وصولاً لإعدام سيد قطب وعدد من قياداتها (1965)، ولاحقاً بعد الإطاحة بحكومة الدكتور محمد مرسي (2013)، حيث جرى إعلانها جماعة إرهابية، والأمر ممتد حتى يومنا هذا.
في سوريا، سبق القانون 49 لسنة 1980 أحداث حماة (1982) بعامين، وقضى بتجريم الجماعة والحكم بالإعدام والمؤبدات على نشطائها…سقط نظام الأسدين، وبقيت الجماعة، وهي اليوم على علاقة “ملتبسة” مع العهد الجديد، سيما بعد صدور نداءات للجماعة بحل نفسها، من قبل مقربين من سلطة الرئيس أحمد الشرع…وفي العراق، لم تعرف الجماعة، الحياة الطبيعية منذ سقوط العهد الملكي (1958)، حتى سقوط بغداد (2003)…وفي تونس، لم تستفق “النهضة”، بوصفها طبعة أكثر تنوراً وتنويراً من الجماعة الأم، من مطاردات بورقيبة وابن علي، حتى بدأت تلاحق بسيف قيس سعيّد و”بلاغته” المُضجرة…وفي الأردن، وبعد عقود خمس سِمان من تجربة التحالف، يجري حل الجماعة، بقرار قضائي قطعي، وتصادر المقار والممتلكات، وتطارد الأموال المنقولة وغير المنقولة…وفي السودان، تنهض رواية خصوم الجيش والبرهان، على فرضية، أنه يحتضن فلول نظام البشير، المتهم إخوانياً، وفي الخليج، حيث لا مطرح للأحزاب السياسية، تقود دول نافذة فيه، المعارك الشعواء ضد الجماعة، ليس داخل حدودها الإقليمية فحسب، وإنما خارجها كذلك، وصولاً إلى “ما وراء البحار”…ولم يشفع لإخوان اليمن، قتالهم الحوثي تحت راية التحالف العربي، فلطالما تعرضوا للإقصاء والتهميش، وصولاً إلى “النيران الصديقة” التي طالما أصابت مواقع التجمع اليمني للإصلاح…والخلاصة، أن الجماعة، وهي تقترب من ولوج عتبات مئويتها الثانية، لم تعد تتوفر على ساحات ومساحات آمنة ومضمونة، باستثناء جيوب هنا وبقايا نفوذ هناك، كما في سوريا وغرب ليبيا، وبدرجة أقل في أماكن أخرى من دول الإقليم.

ما الذي يُخبرنا به التاريخ؟
“الحل ليس بالحل”، تلكم هي الخلاصة الأولى من تجارب العلاقة بين الإخوان والسلطة في الدول التي يعيشون بين ظهرانيها…الجماعة حُلت مرات عدة في مصر، وفي أول تجربة انتخابات حرة ونزيه، حلّت أولاً في انتخابات الرئاسة ومجلس الشعب…وتجربة النهضة التونسية مع سنوات الجمر والنار، لم تمنع الحركة من تصدر القوائم في صناديق الاقتراع في سنيّ الربيع العربي الأولى، وقبل استفحال ظاهرة الثورات المضادة…وإخوان سوريا، لم تُنههم سنوات الإعدامات ولا سجن تدمر وصدنايا والمزة، فما زالوا لاعباً مهماً في المشهد السوري، وحماس في فلسطين، ما زالت تملأ الأرض والفضاء، بشعبية لا تضاهيها شعبية الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بمجموع فصائلها…والانتخابات الأخيرة في الأردن، أظهرت ثقل الجماعة ووزنها العابر، لمختلف ألوان الطيف الاجتماعي الأردن، برغم التضييق والاستهداف.
الحل بالإفراج عن مسارات التحديث والدمقرطة والتعددية، قولاً وفعلاً، وبما يتيح تخليق تيارات وأحزاب وجماعات، أخرى، تستحدث التوازن المطلوب في الحياة السياسية الداخلية في دولنا ومجتمعاتنا، وتتخطى ثنائية “الإخوان * الدولة العميقة” الحاكمة والمستحكمة…الحل بضمان منظومة الحقوق والحريات للأفراد والجماعات المدنية والسياسية والحزبية، بصورة حقيقية، وليس بطريقة شوهاء، تخفي تحت أقنعها مستويات متفاوتة من الاستبداد. الحل ليس بيد “السلطة” وحدها، بل هو مسؤولية مختلف التيارات التي أفضى ضعفها وتآكل نفوذها، إلى خلق فراغ هائل، ملأته حركات الإسلام السياسي، فالمجتمع، كالطبيعة، يكره الفراغ، وبدل سياسة “إضعاف القوي” المُعتَمَدة في أغلب الدول العربية، والمُعَدّة لمواجهة الإخوان والإسلام السياسي، يتعين اتباع سياسة “تقوية الضعيف” لاستحداث الاتزان والتوازن في الحياة الداخلية.
والحل في المقابل، يبدأ بقيام الجماعة/الجماعات، بإجراء المراجعات العميقة والضرورية، لتجربة مئة عام من الخيارات والسياسات والتحالفات، والإقرار بالأخطاء و”الخطايا” التي تمت مقارفتها، فالمراجعة على عتبة المئوية الثانية، لا يتعين أن تنتظر ضربة قاصمة هنا، أو انشقاق عامودي هناك…المراجعة ضرورية في كل الأوقات، وتصبح شرطاً وجودياً، عندما تشتد الضائقة وتتفاقم الخطوب والتحديات…المراجعة على عتبة المئوية الثانية، يتعين أن تشمل مفاهيم مُؤَسِسة لفكر الجماعة وممارستها، فلا يجوز الاكتفاء بالقول: أن الوجهة العامة لمواقفنا وسياساتنا، كانت صحيحة، وأن ما اقترف من أخطاء، إنما وقع في الهوامش وليس في المتن، ومن قبل أفراد وليس من قبل الجماعة ذاتها.
والحل، يُملي الإقرار من قبل سلطة الدولة العميقة، وبقية تيارات الفكر والسياسة في مجتمعاتنا، من المدارس العلمانية بخاصة، بأنها أساءت تقدير موقع ومكانة ودور “الإسلام” في تشكيل وعي الأمة وثقافتها، وتقرير سلوكها السياسي والانتخابي، وتشكيل مواقفها وصوغ اتجاهاتها…ذلكم بحث طويل، ليس في هذه المقالة، متسعاً له.
والحل، لن يتأتى من “تخليق” طبعات رسمية، من “الإسلام السياسي”، تنشأ فاقدة لاستقلاليتها وصدقيتها، لقد جرى تجريب هذا الخيار، وجرت محاولات لاحتكار الفضاء الديني و”إمارة المسلمين”، في دول عدة، وجرى التعويل على شرعيات أخرى، لم تصمد طويلاً أمام ضعف “شرعية الإنجاز” في عدد غير قليل من الدول الوطنية العربية الحديثة…ليس الحل، بإنتاج طبعة جديدة من الإسلام، متصالحة مع مقتضيات التطبيع مع إسرائيل ومندرجاته، تلكم محاولات ساقطة، تلامس ضفاف “الهرطقة”، وشتان بين محاولات ملتبسة من هذا النوع من جهة، والدعوات الجادة والمخلصة، لإصلاح وتجديد وتحديث الخطاب الديني من جهة ثانية، الأولى، جزء من العدوان الصهيوني – الامبريالي على أمتنا وشعوبنا، فلسطين أساساً، والثانية، دعوة لمواكبة العصر، والانتباه لضروراته وأولوياته.
والحل، وهنا بيت آخر للقصيد، يكمن في انصراف مختلف التيارات، في الدولة والمجتمع، لمواجهة التهديدات الحقيقة لشعوب أمتنا العربية، بالذات في المشرق، فلا يجوز أن يجلس أغلب المنشغلين بالعمل السياسي والعام، على مقاعد النظّار والمتفرجين، في مواجهة الهيمنة الغربية والتوحش الصهيوني، وترك الساحة للإسلاميين، لا يجوز الاكتفاء بتوجيه الاتهامات لهم بامتطاء موجة غزة لتحقيق مآرب حزبية “ضيقة”، لماذا تتعففون عن ركوب الموجة، أفعلوها واقطعوا الطريق عليهم، وحققوا مآرب حزبية “واسعة”، إن كنتم صادقين، تلكم مُسلّمة من مسلمات العمل السياسي والتنافس الحزبي…انصراف غالبة التيارات الحزبية والفكرية، عن مقارعة العدو والتصدي لمشاريعه، وتناسل دعوات الانكفاء لمواجهة الهموم المحلية، وعلى قاعدة “النأي بالنفس”، أفضت إلى تّصدّر الجماعة للمشهد، في ساحات عدة، وستفضي إلى تعزيز دورها ومكانتها، برغم الملاحقة ومحاولات الاستئصال، ولن يكون مستبعداً أبداً، في هذا الإقليم المتغير، أن نستيقظ ذات صباح، على عودة “الإسلام السياسي” بقوة أكبر، بطبعاته القديمة أو بطبعات جديدة، مزيدة ومنقحة (أو العكس)، أما استعجال نعي الإسلام السياسي والتبشير بمرحلة “ما بعده” فتلكم هرطقات فكرية، ساذجة في أحسن تقدير، ومدفوعة الثمن في أسوئه…هنا الوردة فلنرقص هنا.