بقلم الدكتور محمود المساد
مدير المركز الوطني لتطوير المناهج
العلم لم يتغير مفهوم العلم، وإنما الذي تغير هو فهم الناس له، وجُملة تصوراتهم عنه وعن وظيفته، وهذا التغير في الأفهام بين الناس عبر الزمن فرضته – وتفرضه – ظروف ومتغيرات على امتداد السنوات، تخضع بدورها للتغير تبعًا لدرجة الوعي، ومستوى الانفتاح الفكري، ودرجة الحرية الاجتماعية والدينية، وتدخل السياسة ومحاورها وتحالفاتها، إضافة إلى المصالح وتضاربها والمجاملات المعقولة وغير المعقولة
طبيعة العلم
وعندما نُعّرف العلم بانه إدراك الشيء على حقيقته، وأنه المعرفة واليقين، بمعنى أنه مجموعة من النظريات والوقائع والحقائق، بالإضافة إلى مناهج البحث المتوافرة، التي من شأنها أن تُشكل نسقًا من المعارف العلمية المتراكمة، أو مجموعة القواعد والمبادئ، التي بها تُشرَحُ الظواهر والعلاقات القائمة فيما بينها، فإن كل ذلك يكشف لنا أن ثمَّة واقعًا طبيعيًّا في هذا الكون نفهمه أو نحاول فهمه وفق منهج علمي في البحث، نصل من خلاله إلى تكوين معرفة مؤكدة أو غير مؤكدة، تتراكم عبر الزمن، مثلما أنَّ وعديدًا من المحاولات نوثقها وننشرها، وتتباين آراؤنا حولها فنزيد عليها ونتفق مع بعضها ونختلف مع بعضها الآخر، وبالنتيجة تزدهر العقول وتقوى بالمهارات المتعددة المستويات المختلفة الأشكال، حيثُ تجعل من المتعلمين قادرين على المبادرة والتصدي لدراسة ظواهر جديدة أو إعادة دراسة ظواهر نختلف عليها بُغية التصويب أو التطوير. وعندها نكون قد بنينا الإنسان وراكمنا المعرفة معًا
بين العلم والتغيير
ما أثار شجوني وحماستي لهذا الموضوع مقالات للمفكر “جمال طاهات” نشر أولها في موقع الدستور بتاريخ 4-شباط-2021، وهذه المقالات تستحق الحوار والبناء عليها من أجل التعمق في الفهم والسرعة في التغيير في جوانب متعددة أهمها
شكل النظام التعليمي ودور المدرسة
محتوى التعلم ووظيفة المعرفة
تحديد الغايات من مؤسسة المدرسة على المدى المتوسط والبعيد
فقد أيدّ “طاهات” التحول من دور المدرسة من حيث هي وسيلة لبناء الأفراد حسب نموذج مُعّد مسبقًا، وأنها تنتج أفرادًا صاغت وعيهم لينسجم مع مستقبل واضح- إلى دور يطور إمكانات الفرد لمواجهة مستقبل غير واضح سريع التغيُّر. وهنا يظهر بجلاء أنّ شكل المدرسة يحتاج إلى تغيير في الوظيفة والشكل والأهداف، مع ضرورة استمرار المدرسة مفهومًا، بمعنى أن النظام التعليمي يستوجب التأمل وإعادة التفكير للوقوف بين حاضر يهتز لأسباب متعددة أمام مستقبل غامض سريع التغيُّر، وحاضر تنقلب مضامينه وأفهام ناسه لصالح ثورات تطل مقدماتها التكنولوجية التي غيرّت كل شيء بسرعة مذهلة أفقدت هؤلاء الناس الوجهة والمآلات. وبعدها يُصاغ الإطار الفلسفي الذي يقف على الحاضر ويتطلع إلى المستقبل محددًا حاجاته والطرق التي يسلكها والظروف والمتغيرات المحيطة به، وطبيعة الأدوات الأنسب من أجل الوصول الآمن وتحقيق الغايات بدرجة فعّالة
التعليم ثلاثي الأبعاد
إن تكامل الممارسات العلمية مع الأفكار الرئيسة والمفاهيم الشاملة في تدريس العلم يعرف بالتعليم الثلاثي الأبعاد، عندما يستخدمها الطلبة معًا لإدراك الظواهر
إن ممارسة العلم وإنتاج المعرفة من خلال تعلم المفاهيم العلمية الأساسية يسيران معًا بهدف إدراك الظواهر وزيادة المعرفة حولها وتطويرها أو تصويبها، واكتشاف علاقات بينها وبين غيرها من الظواهر، وتوظيفها جميعًا من أجل التفسير والتبرير، ولا شكّ في أنّ حل المشكلات يعزز التعليم ثلاثي الأبعاد. وبدون ذلك حقيقة نكون قد أخفقنا في جانب أثَّر بدوره في اكتمال الفهم العميق للمتعلم، وبات يميل أكثر للجانب النظري دون التمكن من مهارات التفكير والمنهجية العلمية التي هي الغاية النهائية لإعداد المتعلم لمواجهة المستقبل غير الواضح المعالم والمآلات
من جانب آخر لا ينبغي تحديد مراحل تطور المتعلمين، وإنما يمكن تمكينهم من أي موضوع بفعالية ومصداقية إذا تم تدريسهم هذا الموضوع بالممارسة عبر الأفكار والمفاهيم الشاملة عابرة الموضوعات، أي بتفعيل التعليم ثلاثي الأبعاد. عندها يغدو الاختلاف بين المتعلمين بالقدرات والفهم، ومهارات التفكير وخاصة المرتفعة منها، الأمر الذي يحتاج فقط إلى مرور المتعلمين، ولا سيمّا المتفوقون منهم وأصحاب الفضول العلمي والمتطلعّون إلى التعمّق في ممارسة مهارات التفكير العليا والإبداع بخبرات متقدمة مدعومة بالتحفيز والنشاطات الموجهة. ومع أن المتعلمين عمومًا يكوِّنون أنماط تفكيرهم الخاصة من خلال الممارسة الفعّالة والمشاركة بالحوارات، وإبداء الآراء المدعومة بالحجج إلّا أن المراقبة غير المباشرة تحقق التوجيه اللازم لبناء الخبرات وتشكيل أطر التفكير على نحو سليم
العمل للمستقبل
إن الفلسفة اليوم تتجه إلى إعداد المتعلمين لمستقبل غامض ينطلق من حاضر مرتبك، وكأن هذا الحاضر المأزومة ناسه مرحلة انتقالية تتداخل فيها المتغيرات والظروف؛ لهذا علينا أن نُعدّ المتعلمين ونكسبهم المهارات والمعرفة الكافية للتعامل مع الحياة بكل ما فيها من تحديات بنجاح وفاعلية، إن هذا الأمر يستوجب النظر مليًّا إلى المراحل الثلاث الآتية
مراحل التعلم/ ما وراء المعرفة
أولًا: إن أي تعلم جديد يعرف المتعلم عنه وحوله بعض المعلومات والخبرات التي تقف أمام التعلم الجديد، فإن توافقت معه استقام الأمر، وإلّا فشل التعلم واكتفى المتعلم بالحفظ من أجل الاختبار
ثانيًا: لتطوير فهم المتعلمين وكفاءة تعلمهم ينبغي عليهم أن يتمكنوا من أساس عميق لمعرفة الواقع وتكوين المعنى الحياتي للمعرفة، ويكون ذلك من خلال الممارسة والربط الذي يترتب عليه فهم الحقائق والأفكار المعروضة بمحتوى التعلم في سياق مفاهيمي يقوم على الواقع والحياة ويعلو فوقها
ثالثاً: السيطرة على التعلم من خلال التأمل بالمعرفة وإعادة التفكير بها وفقًا لمنحى التعلم القائم على مهارات التفكير ما وراء المعرفة (التفكير بالتفكير). وهنا تترسخ المعرفة وتخزن بطائق واعية يمكن توظيفها بمواقف متعددة لاحقة
إن هذه المراحل تدعم تعلم المتعلمين وتمكنهم من مهارات التفكير المتضمنة في مناهج البحث العلمية، وتدعم تغير الأطر الفكرية للمتعلم، وتبني كفاءة الاستقصاء والربط لديه، وتسهل عمليات الاسترجاع والتطبيق والمحاججة
الخلاصة
آن الأوان للتأمل وتوظيف مهارات التفكير العليا بما فيها الإبداعية، ممن يتمكّنون منها في خلوات قائمة على العشق للتغير الإيجابي لمصلحة الشعوب الطامحة للتحرر من كل واقع معيق ومهترئ، ولا يسعف على الاستقرار ولا يقود إلى الازدهار؛ من أجل
إعادة ترتيب النظام التعليمي ودور المدرسة وشكلها وارتباطاتها بما يكفل تأسيسها على الاستقلالية وحرية الرأي واتخاذ القرار وتقديم المصلحة العامة
التوجه إلى إعداد المتعلم وتمكينه من شخصية مستقلة تقرأ المستقبل وتستشرف الظروف والمتغيرات من أجل الإسهام في بنائه والعيش الناجح به ونشر المعرفة حوله والتحوط لكل آثاره السلبية وتحويله لمصلحته العامة
العمل الجاد لاستثمار الوقت في كل ما يفيد هذه الفلسفة، ويبعد التعلق بالتفاصيل والماضي، ويبني متعلم المستقبل المتمكن من النظرة الإيجابية الباحث النشط، المتسلح بالمهارات المفيدة لبناء الفضول العلمي الراشد لديه
تقديم هذا النموذج بعد تجريبه ودعمه بالحجج المقنعة لتوعية الناس حوله وتحصيل الدعم الرسمي له