بقلم الدكتور هاني العدوان
مؤسس ومدير عام تلفزيون “أردن العرب”
حين كتب الزميل الإعلامي شاكر المشاقبة كلماته عن غزة، أعاد فتح بوابة الذاكرة على لحظة لا تغيب، لحظة كانت فيها الكلمة أقوى من الصاروخ، وكانت الكاميرا تقف على الحد الفاصل بين الحياة والموت، وكانت غزة لا تزال كما هي اليوم، سيدة الصمود ومعلمة الكرامة
أحد عشر عاما مرت، لكنها ما زالت حاضرة، بكل تفاصيلها، في وجداننا نحن الذين عشناها لا نقل أخبار فقط، بل معركة شرف في ميدان الإعلام الصادق، في رمضان عام 2014، وأثناء العدوان الصهيوني البشع على غزة، كنا في تلفزيون أردن العرب خلية لا تهدأ، نستنهض كل ما فينا من طاقة، ونسابق الزمن لننقل صوت الحقيقة من وسط الجراح
رغم شح الإمكانيات، وارتفاع كلفة البث، وقلة الموارد، قررنا أن لا نقف متفرجين، كان قراري كمؤسس ومدير عام للقناة، أن نكون هناك في غزة، وكان شاكر المشاقبة هو من اخترناه لحمل الرسالة، أرسلناه إلى قلب الجحيم، إلى الميدان، حيث القذائف تسابق الكلمات، فكان على قدر الثقة، مراسلا صلبا ينقل المشهد لحظة بلحظة، تحت القصف، في ساعات السحر، وفي ذروة اللهيب
وفي استوديوهاتنا المتواضعة، وقفت كتيبة من خيرة الزملاء، تحمل المشعل وتنسج الخيوط بين الميدان والبث، بين القصف والصورة
أبو صالح الخلايلة، علي الخرابشة (أبو راكان)، عليان العدوان (أبو الطاهر)، أمل خضر، المخرج الخلوق مالك قاووق، والمصور المبدع أحمد الخوالدة، كلهم كانوا هناك، لا على الشاشات فقط، بل في عمق المعركة الإعلامية، يثبتون أن الانتماء لا يقاس بالميزانية، بل بالإرادة والصدق والكرامة
كنا نعلم أن التغطية الحقيقية ليست استعراضا تقنيا، بل موقفا وطنيا وإنسانيا، كنا نعيش على وقع كل شهيد، ونتنفس مع أنفاس أطفال غزة، وندخل صوتها إلى كل بيت، عل هذا العالم يسمع
واليوم بعد أحد عشر عاما، غزة ما زالت تنزف، لكن هذه المرة، لم يكن القصف وحده العدو، بل الجوع، والعطش، والحصار، والتخاذل العربي والدولي المريب
في هذا المشهد، ينهض الأردن مرة أخرى لا بالشعارات، بل بالفعل،
يدخل المساعدات، يكسر الحصار، ويتحدى إرادة الكيان الذي أراد لغزة أن تموت بصمت، فمن غير الأردن أدخل الشاحنات، من غير الأردن بكى لأجل طفل يبحث عن رغيف خبز، من غير الأردن قال سنكسر الحصار وفعل، من غير جيشنا العربي يغامر ويتقدم ليمد يده رغم التهديد والتحذير
ومع كل هذا نفاجأ بجحود لا يليق، وتشكيك لا يحتمل، وتهكم على دور إنساني وتاريخي، يضرب بجذوره في هوية هذا الوطن التي لا تنفصل عن فلسطين
إلى أولئك الذين يشككون، نسأل ماذا فعلتم، ماذا قدمتم
الرجولة ليست منشورا ولا تصريحا ناريا، بل شاحنة تسير رغم الخطر، وسائق يسير نحو المجهول وفي قلبه إيمان أن إيصال رغيف خبز قد يساوي حياة، وأن قطرة ماء قد تنقذ روحا
غزة لا تحتاج إلى المتفرجين، بل إلى من ينزلون للميدان، كما نزلنا، وكما ينزل الأردن اليوم،
غزة لا تنسى، وذاكرتها أقوى من فحيح النكران
نحن لم نكن محطة كبرى، لكننا كنا صادقين
لم تكن كاميراتنا الأغلى، لكن كانت أرواحنا الأغلى
لم يكن اسمنا بين الكبار، لكن كانت رسالتنا في مصاف الشرفاء وغزة تعرف، والأردن يعرف، والتاريخ لا ينسى
فليصمت المتكئون على الرياء، وليبق هذا الوطن كما كان سند الكرامة الأخيرة في زمن السقوط
الدكتور هاني العدوان
مؤسس ومدير عام تلفزيون “أردن العرب”
من الأردن حيث لا نبيع الذاكرة، ولا نساوم على فلسطين