غياب منظومة القيم في زمن المادية المفرطة: الواقع الأردني وإمكانات النهوض

16 ثانية ago
غياب منظومة القيم في زمن المادية المفرطة: الواقع الأردني وإمكانات النهوض

بقلم: سعيد المصري
في عصرٍ تتسارع فيه مظاهر الحضارة المادية على حساب الأبعاد الروحية والأخلاقية، تشهد القيم الإنسانية حالة من التراجع الحاد، تهدد بتفكيك التماسك الاجتماعي وزعزعة التوازن النفسي لدى الأفراد. لم تعد القيم مثل الصدق، والإيثار، والتكافل، والعمل الشريف، منارات يهتدي بها الناس في حياتهم، بل تراجعت أمام سطوة المال، والنفوذ، والنجاح السريع بأي وسيلة.
ورغم أن هذه الظاهرة عالمية الطابع، إلا أن مظاهرها في المجتمع الأردني باتت أكثر وضوحاً، في ظل الضغوط الاقتصادية المتزايدة، وتغلغل الإعلام الاستهلاكي، وتآكل الطبقة الوسطى، واتساع الهوّة بين القيم المُعلنة والممارسات اليومية.
من مظاهر الغياب القيمي في المجتمع
الفردانية والنفعية على حساب الصالح العام
أصبحت المصلحة الشخصية هي المحرك الأساس في العديد من العلاقات والممارسات، من الأسرة إلى مؤسسات الدولة. لم يعد الغش أو المحسوبية أو التهرب الضريبي مستهجنًا لدى البعض، بل يُبرر كوسيلة “لتأمين المستقبل” في غياب منظومة عدالة اقتصادية تحمي الجميع.
تراجع مكانة التعليم والعمل الجاد
تراجعت قيمة الاجتهاد والتفوق العلمي، لتحل محلها ثقافة “الواسطة” و”الالتفاف على النظام”، مما أصاب أصحاب الكفاءات بالإحباط، وقلّص من قيمة الإنجاز الحقيقي.
تفكك الروابط الأسرية والمجتمعية
تحت وطأة الضغوط الاقتصادية ونمط الحياة الاستهلاكي، تراجعت قيم البرّ وصلة الرحم والتكافل، لتحل محلها علاقات مصلحية عابرة أو تواصل افتراضي سطحي.
فقدان الثقة بالمؤسسات العامة
عندما تتسع الفجوة بين الخطاب الرسمي وسلوك بعض الشخصيات العامة، تنمو مشاعر اللامبالاة والاغتراب، وتتآكل الثقة بالدولة ومؤسساتها.
الجذور العميقة للمشكلة
لا يمكن فصل هذا الغياب القيمي عن التحولات البنيوية التي طالت المجتمع والدولة معاً، ومن أبرز أسباب ذلك:
– تغوّل اقتصاد السوق المنفلت من الضوابط الأخلاقية.
– تسطيح الوعي الجمعي عبر إعلام يروّج للمظاهر والنجومية السطحية.
– ضعف في المنظومات التربوية، سواء داخل الأسرة أو المدرسة أو المؤسسات الدينية.
– عجز السياسات العامة عن تقديم نماذج واقعية يُحتذى بها في النزاهة والعدل والمسؤولية.
معالم الطريق نحو الإصلاح القيمي
تجديد التربية القيمية في كل المراحل
المدرسة ليست فقط مؤسسة تعليم، بل بيئة لبناء الإنسان القادر على التمييز بين الحق والباطل، والربط بين المواطنة والكرامة. لذلك يجب أن تركز المناهج التربوية على قيم المواطنة والعدالة والاحترام، لا على الحفظ والتلقين.
تسليط الضوء على النماذج الملهمة
الإعلام ليس مرآة فقط، بل صانع وعي. لا بد من إبراز شخصيات أردنية ملهمة في نزاهتها واجتهادها، لا في قدرتها على التسلق السريع.
إعادة بناء شبكة الأمان الاجتماعي
عندما يشعر الفرد أن هناك مظلة تحميه من الفقر والتهميش، تقل فرص انزلاقه نحو الممارسات غير الأخلاقية. العدالة الاجتماعية رافعة أخلاقية لا تقل أهمية عن القوانين الرادعة.
إحياء دور المؤسسات الدينية والمدنية
بعيداً عن الخطاب الوعظي التقليدي، تحتاج هذه المؤسسات إلى أن تلامس واقع الناس، وأن تكون صوت العقلانية والمبادرة في مواجهة التفكك القيمي.
القدوة تبدأ من الأعلى
لا تنهض القيم في مجتمع يرى المسؤول يكيل بمكيالين، أو يعظ بما لا يلتزم به. وجود القدوة الصادقة في مواقع التأثير كفيل بإعادة الاعتبار للقيم.
دور القيادات العشائرية في إعادة التوازن
في النسيج الاجتماعي الأردني، لطالما كانت العشيرة حاضنة للقيم الأصيلة من شهامة وكرم وتكافل. واليوم، في ظل التحولات العميقة التي تطال المجتمع، يبرز دور الشيوخ والوجهاء المتنورين في إحياء ثقافة الانتماء، وضبط البوصلة الأخلاقية، ورفض السلوكيات الدخيلة. بدعم رسمي ومجتمعي، يمكن لهؤلاء أن يشكلوا خط الدفاع الأول عن منظومة القيم.
دعوة للاتزان لا للانسحاب
ليست دعوة استعادة القيم انسحابًا من العالم الحديث، بل توازنًا ضروريًا بين التطور المادي والارتقاء الأخلاقي. فالأردني الذي صمد أمام التحديات الجيوسياسية والاقتصادية، قادر على إعادة بناء ذاته، إذا أُعيد توجيه البوصلة الأخلاقية التي ضلت الطريق.