الروائي والقاص والشاعر د. محمد عبد الله القواسمة
هيلين تلك المرأة الأسطورية، التي وردت في ملحمة الإلياذة لهوميروس، الشاعر الإغريقي. وهي من أجمل النساء عند الإغريق، عشقها ملوكهم، لكنها اختارت منيلاوس ملك سبارتا زوجا لها، وجعلتها فينوس آلهة الجمال تغرم بباريس ابن ملك طروادة عندما نزل ضيفًا عند زوجها، وهربت معه إلى طروادة، فكانت الحرب التي سميت حرب طروادة، التي سير فيها اليونانيون ألف سفينة للفوز بعشيقتهم هيلين من عشيقها باريس. وتمكنوا بعد عشر سنوات من القتال والحصار من دخول مدينة طروادة باستخدام الحيلة، بإهداء مليكها حصانًا خشبيًا وفي داخله الجنود، وانتهت الحرب بحرق طروادة، وتدميرها، وقتل ملكها بريام وأميرها هكتور شقيق باريس، وأخذ نسائها محظيات عند اليونانيين، وعادت هيلين مع انتهاء سحر فينوس إلى زوجها منيلاوس .
كانت هيلين من أهم الشخصيات الأسطورية، التي وظفت في الأدب والفن على مستوى العالم، وكان أول توظيف لها في مسرحية «الدكتور فاوستس» التي كتبها كريستوفر مارلو (1564 -1593م)، معاصر شكسبير، الذي قيل إنه المؤلف الأصلي لمسرحيات شكسبير وقصائده.
وجاء الممثل والمخرج الإنجليزي ريتشارد ببيرتون (1925-1984م) واختار مسرحية مارلو دون غيرها من المسرحيات التي كتبت عن هيلين باستخدام أسطورة فاوست ومن أشهرها تلك التي كتبها غوته الأديب الألماني؛ لأن مارلو إنجليزي مثله، وسبق أن قدم المسرحية نفسها على المسرح، وحظيت بالنجاح من ناحية أخرى.
ويقال إن فاوست شخصية حقيقية، ظهرت في العصور الوسطى لأستاذ ألماني بلغ من العلم مكانة عالية، ثم مارس السحر وباع روحه للشيطان، في مقابل أن ينال ما يشتهي من المتع والملذات الحسية والمادية لعدة سنوات. وتجلت شخصية فاوست في صورة أسطورية أول مرة في كتاب نُشِر عام 1587م في فرانكفورت لمؤلف مجهول، عنوانه «تاريخ الدكتور يوهان فاوست، الساحر الذائع الصيت، ذي الأعمال الجهنمية»
إن فاوست، كما أظهره مارلو أسطورة لعالم لم يكتف بما وصل إليه من علم، فطمح إلى الوصول إلى العلم المطلق، وامتلاك القوة والسلطة، ولتحقيق ذلك لجأ إلى السحر واستحضار والأرواح؛ مما أوقعه في حبائل الشيطان مفستوفوليس، مندوب لوسيفر كبير الشياطين، الذي استخدم شبح هيلين؛ ليثير فيه قوة الشهوة الحسية، ويدفعه للتحالف معه، وعقد اتفاق بينهما على أن يكون الشيطان عبدًا له، يقدم له ما يشاء من الملذات الجسدية والمادية. في المقابل يسلمه روحه بعد أربع وعشرين سنة. ووقع فاوست الاتفاقية بدمه.
من أشهر المشاهد، التي ظهرت فيها هيلين في مسرحية مارلو ذلك المشهد الذي ظهر فيه ثلاثة من تلاميذ فاوست، ويرجو أحدهم منه أن يجسد أمامهم هيلين، بوصفها أجمل نساء الأرض، فيستجيب لهم فاوست، وتظهر هيلين فائقة الجمال وبجانبها الشيطان. وبعد ذهابهم يخلو فاوست بهيلين، ويتوجه إليها بقول أبيات مشهورة:
أهذا الوجه الجميل الذي أطلق ألف سفينة لحصار طروادة وحرق أبراجها الشاهقة؟ .. أي هيلين الحبيبة، امنحيني الخلود بقُبلة من شفتيكِ العذبتين! … عودي يا هيلين! ورُدِّي إلي روحي.. سأُقيم هُنا .. شفتاكِ هما الفردوس، وكلُّ شيءٍ ما خلا هيلين لا قيمة له وقبض الريح.
هكذا كانت هيلين الطروادية في مسرحية مارلو، التي ترجمها كثيرون من بينهم صديقنا عودة القضاة العامل المهم في وقوع فاوست في قبضة الشيطان، وارتكابه الخطايا السبع: الفخر، الجشع، الحسد، الغضب، الشهوة، الشراهة، والكسل. وترديه الجحيم في النهاية؛ لأنه لم يستمع إلى صوت الحق في أعماقه الذي حذِّره من اتباع وساوس الشيطان، والانخداع بحيله السحرية وألاعيبه.
في هذه النهاية البائسة لفاوست نتعلم بأن عدم سمو الإنسان الروحي يجعله تحت سيطرة الرغبات الدنيوية وفسادها، ويفقده المعرفة بحدوده في القوة والسلطة والمعرفة. وهذا هو حال الإنسان في عصرنا الحالي؛ عندما استند إلى القوة التي منحتها له التكنولوجيا الرقمية، وسلم روحه لها، وتحدى إرادة الله، كما فعل فاوست حين أغواه الشيطان بهيلين، مما سيجلب له المتاعب في الدنيا، ويكون مصيره الجحيم في الآخرة. كما وعد الله تعالى» وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ» (الأعراف:175)