بقلم: هشام بن ثبيت العمرو
في زمنٍ تتكشّف فيه المواقف وتتمايز فيه الصفوف، تتعرّى الوجوه التي طالما تخفّت خلف شعارات زائفة وشعورٍ مصطنعٍ بالغَيرة على قضايا الأمة. ومع اشتداد سعير المواجهة بين الكيان الصهيوني وإيران، ووقوف الأردن بثبات خلف مواقفه السيادية وكرامة أجوائه، غابت أصوات اعتادت أن تملأ الفضاء العربي ضجيجًا وشتمًا وتحريضًا، لكنها اليوم، وقد جاء وقت الجدّ، تلعثم لسانها وسُلب منها صدى الصوت.
هؤلاء الأبواق، ممن تمرغوا في وحل الفكر المذهبي المستورد من قم، والذين تشدقوا طويلاً على القنوات الفضائية بشعارات “التحرير” و”الممانعة”، غابوا فجأة. وكأن المعركة لا تعنيهم، وكأن الدفاع عن سيادة الأردن لا يدخل ضمن جدول أعمالهم العقائدية أو “النضالية”. صمتوا، لا لأنهم مشغولون بتحليل المشهد أو دراسة الموقف، بل لأن الأوامر لم تأتِهم بعد، ولأن بوصلتهم الأخلاقية ترتبط بخيط رفيع بيد الوليّ الفقيه لا بالحق ولا بالعروبة.
إنّ غيابهم عن دعم موقف الأردن، الذي وقف شامخًا في وجه من أراد العبث بأجوائه أو استخدام أراضيه ساحة لتصفية الحسابات، ليس محض صدفة أو حياد. بل هو موقف جبان يتقنع بالسكوت، وهو خيانة صريحة مغلّفة بالصمت، وجبنٌ يُباع بثمن بخس في أسواق المواقف المرتزقة. كيف لهؤلاء أن يتكلموا عن السيادة وهم يسجدون لفكرٍ دخيل ويرتمون في أحضان عمائم لا ترى في العرب إلا وقودًا لمحرقة مصالحها؟
لقد أثبت الأردن، بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني، أنه صاحب القرار السيادي النابع من إرث عروبي هاشمي، لا يُملى عليه ولا يُساوم في أمنه القومي. وحين تكالبت النيران من الشرق والغرب، وقف الأردن برجاله وجيشه ومواقفه، يحمي سماءه ويمنع تحويله إلى ميدان لتصفية صراعات الآخرين. فأين كان أولئك “المتحمسون”؟ أين ذهبت “الغيرة” المصطنعة؟ أم أن عروبة الأردن لا تعنيهم حين تكون في مواجهة مشروعهم الطائفي؟
ولعلّ المفارقة الأوضح، أن محور ما يسمى بالممانعة، الذي ظلّ لعقود يتغنى بخطابات جوفاء عن مقاومة الكيان الصهيوني، وجد في صلابة الموقف الأردني عائقًا أمام تمرير مخططاته وأحلامه المريضة. لقد فشل هذا المحور، الذي لا يرى في المقاومة سوى شماعة لتبرير هيمنته ونفوذه، في استغلال الأردن أو تطويعه. فالمملكة لم تكن يومًا تابعة، ولا أرضها مسرحًا لحروب الوكالة، ولا سماؤها ممرًا لصواريخ لا تملك قرار إطلاقها. لقد كان الموقف الأردني المشرّف صفعة على وجه هذا المحور، وكشفًا لعورته الفكرية والسياسية، التي تتلطى خلف أكذوبة الممانعة، وهي في حقيقتها مناورة للتمكين لا للتحرير.
إن الصمت في وقت الحق خيانة. وهؤلاء الأبواق الذين غابوا عن الساحة حين احتاجهم الوطن، لم يكونوا يومًا أبناءً للأرض ولا أحرارًا في الكلمة. إنهم أزلام مرحلة، وضجيجهم لا يعدو كونه صدى لغيرهم. واليوم، وقد تهاوت أقنعتهم وسقطت أوراق توتهم الأخيرة، بات لزامًا علينا أن نسمّيهم بأسمائهم: “عبيدُ الصمت في حضرة الملالي، وخونةُ الصوت حين ينادي الوطن.”
وإن كان من عبرةٍ تُؤخذ، فهي أن من يسكن خندق الغريب، لا يمكن أن يذرف دمعًا على تراب هذا الوطن.
والأردن، سيبقى عصيًّا، لا تُدجّنه أبواقٌ ولا تُخيفه مؤامرات.