الردّ الإيراني “الأنجع” على العدوان الأميركي… وجهة نظر

47 ثانية ago
الردّ الإيراني “الأنجع” على العدوان الأميركي… وجهة نظر

كتب: عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية
تتوفّر في إيران “سلّة خيارات” للردّ على العدوان الأميركي السافر ضدّ ثلاثٍ من منشآتها النووية، لم يترك الباحثون والمحلّلون واحداً منها من دون ذكره واستحضاره، من بينها: توجيه ضربات مباشرة للأصول والقواعد الأميركية في الإقليم من حولها، ترك المهمة لحلفائها من أطراف “المحور” والاحتفاظ بمسافة أمان عن المواجهة المباشرة مع واشنطن، تفعيل ورقة مضيق هرمز، وربما بإضافة ورقة مضيق باب المندب إليها، وتفعيل دور قواتها البحرية الكبيرة لهذا الغرض وغيره، الانسحاب من اتفاقية منع الانتشار والوكالة الدولية للطاقة النووية، ابتلاع الضربة وكظم غيظها على قاعدة استنقاذ النظام وما تبقّى لها من أصول استراتيجية، التركيز على استهداف “إسرائيل” على اعتبار أنّ ثمّة “وحدة حال” بينها وبين الولايات المتحدة، ومن يضرب الأولى كأنما يضرب الأخيرة في مقتل.
في الحياة الواقعية، ليس ثمّة “خيار واحد” يمكن أن يقيّد الفاعلون أنفسهم به… غالباً ما يؤتى على ذكر “السيناريو الآخر”، حين يجري تناول الخيارات المحتملة والسيناريوهات المقبلة، هو في واقع الحال، مزيج بين عدد منها، وهذا ما نحسب أنّ طهران مقبلة عليه.
لكلّ خيار من الخيارات السابقة محاذيره، بعضها قد يأخذ منحى “انتحارياً” فيما بعضها الآخر لا قيمة له في استحداث تغيير في مجرى الأحداث، ولا يفضي إلى استرداد بعض من التوازن والمكانة والدور…. إيران، وهي تصوغ خياراتها اليوم، وفي الشرط الإقليمي المتشكّل منذ السابع من أكتوبر، لا تبحث عن “نصر مطلق”، بل عن تكريس صورة الصمود والثبات، ورفض محاولات تجريعها كأس الاستسلام المرّة، على أمل النهوض من جديد.
بهذا المعنى، أحسب أنّ سيناريو الصدام المباشر مع الوجود الأميركي العسكري والبحري والدبلوماسي في المنطقة، ينطوي على مجازفة غير محسوبة، بل ويمكن القول إنه خيار “انتحاري” بامتياز، ليس لأنّ إدارة ترامب ستردّ بقوة “مميتة”، أقلّه لتفادي الانزلاق إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، لا يريدها ترامب ويسعى تيار الـ”MAG”، قاعدة حكمه وجمهور مؤيّديه، لتفاديها، بل لأنّ خياراً كهذا، سيشكّل “هدية مجانية” لبنيامين نتنياهو، التي عمل بفارغ الصبر لـ”جرجرة” الولايات المتحدة إلى “حرب المفاعلات”، ويتوق لرؤية القوة الأعظم في العالم، تقاتل أمامه ونيابة عنه.
خيار كهذا من شأنه، أن يلحق أفدح الضرر باستراتيجية إيرانية عملت طهران بدأب وطول نفس عليها، خلال السنوات الفائتة، وأقصد بها “تطبيع” علاقاتها مع دول الجوار، بالذات دول الجوار العربي على الضفة الأخرى للخليج… في هذه الدول، وغيرها، تتركّز القواعد والأصول الأميركية، ومن شأن استهدافها، أن يثير حفيظة هذه الدول، بصرف النظر عن الجانب الحقوقي والأخلاقي للمسألة، وأن يعيد العلاقات الإيرانية العربية إلى عهود الصراع والانقسام، وهذا آخر ما تريده الدبلوماسية الإيرانية.
استبعاد هذا السيناريو المكلف، لا يعني أن تقف طهران صامتة حيال الضربة الأميركية الغادرة، يمكن التفكير ببدائل محسوبة، تماماً مثلما فعلت طهران في إثر اغتيال الجنرال قاسم سليماني عام 2020، فضرباتها لقاعدة عين الأسد، أغلقت جولة من المواجهة المباشرة، ولم تفتح باب حرب واسعة وشاملة، والسبب “دقة الحسابات” وتفادي الانصياع لنداءات الثأر والغريزة.
من حقّ طهران، أن تفكّر بإغلاق مضيق هرمز، كردّ على العدوان الأميركي – الإسرائيلي المتمادي، لكنه حقّ ينتمي إلى “مدرسة شمشون” و”خيار هدم المعبد فوق رؤوس الجميع”، تداعيات هذا الخيار لن تقف عند حدود جيران إيران من عرب وغيرهم، بل ستطاول أصدقاء طهران وحلفاءها الكبار، الصين في مقدّمهم، ولا ينبغي بحال النظر إليه بوصفه “طلقة في الجعبة”، هو آخر طلقة في الجعبة الإيرانية، ويتعيّن أن ينظر إليه على هذا النحو، ولا يجوز لإيران بحال إطلاقها على أقدامها.
وما ينطبق على هرمز، ينطبق بالقدر ذاته على مضيق باب المندب، مع كلفة إضافية تتعلّق بـ “المقامرة” بأنصار الله الحوثيين، وهم الفريق الأكثر وفاء والتزاماً بالإسناد، والأكثر احتفاظاً بعناصر قوته واقتداره، ما يجعله في قلب دائرة الاستهداف الأميركية – الأطلسية – الإسرائيلية، وربما بشراكة من بعض العرب والقوى المحلية كذلك.
الخروج على اتفاقية منع الانتشار والانسحاب من الوكالة الدولية للطاقة النووية، يمكن أن تكون خياراً من بين خيارات، يعتقد البعض أنه مكلف للغاية، والحقيقة أنّ التزام إيران بالاتفاقية والوكالة، لم يحمها من العدوان الإسرائيلي أولاً، ولا من العدوان الأميركي تالياً… خطوة يمكن أن تقدم عليها، شريطة أن تكون جزءاً من “رزمة” أكبر، بمسارات متعدّدة وخيارات مفتوحة.
في ظنّي، وليس في هذا الظنّ أيّ إثم، أنّ استهداف “إسرائيل” بقوة، وعلى مدى زمني متطاول، ومن ضمن استراتيجية “تدفيع الثمن”، ورفع كلفة الغطرسة والتمادي، هي الخيار الأنسب للردّ على العدوان المزدوج الأميركي – الإسرائيلي، وثمّة مؤشرات دالّة على أنّ إيران قد تسلك هذا الطريق، وقد تستمر فيه.
خيار كهذا، يمكن أن يقلّل من فرص اندفاعة واشنطن للدخول في حرب مفتوحة مع إيران، ترامب في ذروة “التباهي” بمنجزه العسكري، وإعجابه بأداء “الجيش” الإسرائيلي، لم يربط بين وقف الضربات على “إسرائيل” وعودة واشنطن للحرب مجدّداً… قال إنه سيعود بقوة وقسوة وسرعة، إن استهدفت الأعيان والأصول الأميركية، لم يقل إن استمرت إيران في ضرب “إسرائيل”.
لا يعني ذلك أنه لن يهبّ لنجدة “تل أبيب” إن استشعرت الأخيرة احتمالات الهزيمة والانكسار، هذا ليس خياراً لهذه الإدارة ولا لمن سبقها أو سيلحق بها من إدارات… لكنّ طهران، تستطيع أن تسترجع بعضاً من صور “التوازن” و”الردع”، إن هي جعلت الإسرائيليين يصرخون، وبمقدورها أن تفعل ذلك، وأن تفعله بقوة وحزم، ومن دون تردّد.
خيار إيران “الأنجع” للردّ على العدوان المزدوج، عماده الأساسي الاستمرار في ضرب “إسرائيل” بقوة وقسوة، حتى تصرخ أولاً، والصاروخ الأخير في هذه الحرب، يجب أن ينطلق من إيران، وهذا لا يمنع أبداً استعارة بعض الأدوات المتضمّنة في بقية الخيارات… ضربات مدروسة ومحسوبة لأهداف ومصالح أميركية، تسجيل واقعة الطلاق مع الوكالة ورئيسها المشتبه بتورّطه في دور “رأس الحربة الناعم” للعدوان، واستنهاض الحلفاء من دون توريط أو إحراج، ومن كلّ بحسب استطاعته، حتى لا ينقلب المشهد فوق رؤوسهم، في ظلّ الشروط الصعبة والحسّاسة التي يمرّ بها بعضهم… الخيارات الدبلوماسية والحقوقية والسياسية والإعلامية والنفسية، تبقى دائماً على الطاولة، وهي مصاحبة لأيّ خيار تقرّر طهران انتقاءه من “سلة خياراتها المتعدّدة”… اللحظة صعبة ومعقّدة، وأيّ خطأ في الحساب قد يكون قاتلاً.
لم أتحدّث عن خيار ابتلاع الضربة والإهانة، لأنه ببساطة “خيار انتحاري” من نوع آخر، فلن تبقى إيران على حالها إن هي أخذت بهذا المنحى، ولن يبقى لنظامها السياسي ما يقوله ويعرضه، إن هو سقط في اختبار الصمود والثبات… لم أتحدّث عن هذا الخيار، لأنّ إيرانياً غيوراً واحداً لم يتحدّث به، وهذا مؤشّر على أنه لا يداعب سوى مخيّلة المهزومين من خصوم إيران والمسكونين بهواجسهم المذهبية والطائفية السوداء.