من الخطاب إلى الردح: إفلاس سياسي في زمن الشعبية الزائفة

38 ثانية ago
من الخطاب إلى الردح: إفلاس سياسي في زمن الشعبية الزائفة

بقلم: ماجد أبورمان

بينما كانت صواريخ تعبر سماء الأردن، لم تعلُ في البلاد سوى أصوات الردح. لا خطاب سياسي مسؤول، لا رواية واضحة، ولا لغة دولة تُدير أزمة إقليمية بحجم الصواريخ الإيرانية. بل فوجئنا بمسؤولين سابقين يتسابقون إلى الشاشات، يصرخون أكثر مما يشرحون، يهاجمون أكثر مما يوضّحون، وكأن الوطنية أصبحت عرضًا صوتيًا، وكأن استعراض عضلات “الولاء” يمكن أن يُعوّض غياب الكلمة العاقلة.

غياب الخطاب السياسي ليس طارئًا، بل أصبح سمة سائدة. لا أحد يريد أن يتحدث بلغة دولة، ولا أحد يملك الجرأة على صناعة رأي عام ناضج. الردّ الوحيد الذي أُنتج كان صمتًا رسميًا، ومقابلات تلفزيونية مشحونة، ومواقف انفعالية هزيلة تعكس هشاشة الطرح لا صلابته.

الأردن، الدولة التي طالما عُرفت بثقلها السياسي وحنكتها في الأزمات، بدت في هذا الملف وكأنها بلا لسان. ومَن تبرّعوا بالرد، فعلوا ذلك نيابة عن الدولة لا من داخلها، وبأسلوب أقرب إلى النوبة العاطفية منه إلى الرأي السياسي.
إن أخطر ما حصل بعد اعتراض الصواريخ، لم يكن الصاروخ ذاته، بل الفراغ الذي ملأه الثرثارون. فجأة، عاد بعض المسؤولين السابقين إلى الواجهة، لا ليبنوا ثقة، بل لينتقوا خصومهم، يردّون على الشعب بدلًا من أن يردوا باسم الدولة، وكأن الناس هم الخصم، لا الصاروخ.

بعض من ظهروا، لا يريدون الدفاع عن الأردن بقدر ما يريدون الدفاع عن مواقعهم القديمة،او للحفاظ على المناصب الفخريه التي يعتلونها أو تمهيد طريق للعودة.
الوطنية عندهم لا تتجلى في العمق، بل في الحدة، لا في الطرح، بل في النبرة. وكلما علت النبرة، ارتفعت احتمالات التحليل الخاطئ، وكلما زادت الحدة، غاب المعنى الحقيقي.

لقد تحول الحديث عن الأمن القومي إلى مزايدة، وتحول ملف إقليمي بالغ الحساسية إلى مناسبة للرد على “الفيسبوك” والتسفيه من آراء الناس.

دعونا نكون واضحين: الرد السياسي الأردني عن طريق هؤلاء السياسيين تجاه الحادثة كان ضعيفًا، مبهمًا، ومبتورًا.
ولم يقم أحد من جحافل المسؤولين السابقين – الذين تباروا على الهواء – بترميم هذا الضعف، بل زادوا عليه عبء النفاق، وخلط المفاهيم، والإصرار على جعل الصمت الرسمي فضيلة، والوضوح الشعبي خيانة.

كيف يُعقل أن يكون الرد الرسمي أكثر تماسكًا من ردود نُخب يُفترض أنها خَبِرت العمل العام؟ كيف يُبرَّر أن يخرج علينا من أضعفوا القرار الأردني في سنوات مضت، ليقدّموا أنفسهم الآن كفرسان الدفاع عن “هيبة الدولة”؟

السياسة ليست ملعبًا للمزاودة، ولا شرفة للردح، ولا مساحة للظهور اللحظي.
السياسة شرف ومسؤولية، ومن لا يعرف كيف يصنع خطابًا مسؤولًا وقت الشدّة، فلا مكان له على منبر، ولا قيمة لصوته مهما علا.

كفى ارتجالًا باسم الوطن. كفى استغلالًا لعقول الناس. كفى صمتًا رسميًا وتغطية عليه بردحٍ إعلامي. فالأردن يستحق أفضل من ذلك… وأشجع من ذلك.