الدكتور محمد عبدالله القواسمة
التقيت بالأستاذ عزمي في حفلة زواج ابن أحد الأصدقاء، وكان يرافقني ابني محمد. بعد العناق والتقبيل تبادلنا الذكريات. كانت البداية أن تذكرنا حادثة مقهى الفاروق. قال إنه ما زال يتذكر تلك الأيام، أيام الشباب. كنا نضحك من الأعماق، ولا نحسب للدنيا حسابًا. الآن، كما ترى، تفتك بنا الأمراض. ثم شكا من مرض السكري الذي أضعف عينيه، وهد جسمه. وشكوت له من وجع ظهري، وآلام معدتي، ورددنا معًا قسم الصبر والشجاعة.
لاحظت كما لاحظ عزمي أن ابني محمدًا شارد الذهن ينظر إلي مرة وإلى عزمي مرة أخرى. سأله عزمي:
– بم تفكر أيها الغلام.
أجاب وهو يبتسم:
– الحقيقة، يا عمي، الجلسة معكما طافحة بالأمل والسعادة. هل سأكون مثلكما إذا امتد بي العمر؟
أجبته بدلًا من عزمي:
– ربما تكون أتعس منا يا ابني. الحياة لا تخلو من المرض والهم؛ فهذا هو معناها الحقيقي، ولكن أهم ما في الأمر مواجهتها بروح تقبل ما يجري، ولا تحمل همّ ما فات، ولا تكترث لما تأتي به الأيام.
وقال عزمي:
– اتبع يا محمد نصيحة أبيك، ولا تكن مثله في الانتقام.
تصديت له:
– لا يا صديقي. كانت حادثة الفاروق ردًا على حادثة الروضة. كانت استجابة لما فعلته بي؛ لكل فعل رد فعل والبادئ أظلم.
عندما عدنا إلى البيت سألني محمد عن الحادثتين شرعت أحدثه:
في أول أيام عملي مدرسًا في إحدى مدارس الزرقاء، تعرفت إلى المعلم عزمي. فتى مرح، كثير المزاح، كنت أقبل مزاحه، وأشاركه بالضحك والمرح. وكنت أحضر إلى المدرسة بالحافلة التي تنطلق من مجمع رغدان بعمان، وعزمي يأتي من مدينة المفرق. كانت المدرسة التي نعمل فيها بعيدة عن الشارع الرئيسي، والمكان مجهولًا لي.
أصر عزمي، في نهاية دوام الخميس، على أن يقلني بسيارته حتى نهاية الشارع، ومن هناك أنتظر على الصعيد الآخر الحافلة المتجهة إلى عمان. استجبت تحت إلحاحه، وصعدت سيارته أول مرة.
لم يتوقف على رأس الشارع، ومضى غير مهتم بي. نبهته حتى لا أطيل الانتظار في الشارع؛ فالحافلات تأتي من الزرقاء ممتلئة بالركاب، خاصة في ذلك اليوم، نهاية الأسبوع. انطلق متجاهلًا كلامي وقال:
– انس عمان اليوم، أنت ضيفي في المفرق. تنام الليلة عندنا، وغدًا عند العصر نطلق سراحك.
– أرجوك اليوم الخميس، وتعرف أن الواجبات كثيرة، ولا أستطيع أن أغيب عن البيت.
لم يتوقف وأنا أرجوه. هددته بأن أفتح الباب، وألقي بنفسي على الطريق. ترجلت وأنا أستشيط غضبًا، وهو غارق في الضحك.
انتقلت إلى الصعيد الثاني ووقفت عند محطة الروضة. أطلت الانتظار حتى جاءت حافلة ممتلئة بالطالبات والطلاب من جامعات الشمال.
عندما التقينا في المدرسة لم أتقبل اعتذاره، وتوسط مدير المدرسة والزملاء فتصالحنا، ولكن قلت له إني في يوم ما سأنتقم.
والدك ذكي يعرف من أين تؤكل الكتف. علمت بأن عزمي بعد عمله في المدرسة يعمل في محل نجارة له. عزمت أن أطبخه على نار هادئة. جئت إليه، حدثته عن أخي متعهد البناء، بأنه ينفذ مشروعًا سكنيًا كبيرًا، وقد تعاقد مع ورشة حدادة لتنفذ ما يحتاجه المشروع من أعمال الحدادة. هنا هب للسؤال إن كان أخي يحتاج إلى أعمال النجارة. أجبته بأنه تعاقد مع ورشة للنجارة، وإذا احتاج فسأبلغه على الفور.
في اليوم التالي سألني عن مشروع أخي. أجبته بأنه فك عقده مع ورشة النجارة، ويبحث عن ورشة غيرها. رجاني أن أقدمه إلى أخي.
في اليوم الذي تلاه أخبرته بأن أخي طلب أن أحدد موعدًا معه في مقهى الفاروق، أمام مجمع رغدان بعد صلاة يوم الجمعة؛ ليتفقا على العمل.
في يوم الجمعة صليت الجمعة في المسجد الحسيني الكبير، وجلست في مكان يطل على مقهى الفاروق. رأيت عزمي يركن سيارته أمام المقهى، ويدخل على عجل. عندها عدت إلى البيت، وفي نفسي بعض الحزن على أني جئت به من المفرق.
في يوم السبت. لم يكن ذلك اليوم عطلة كما هو الآن. أخبرني بأنه جاء في الموعد ولكن أخي لم يحضر. قلت إني السبب في ذلك أرجو مسامحتي. رجاني أن أعلمه بالموعد الجديد، وليكن في الموعد نفسه.
وحدث يوم الجمعة التالي ما حدث في الذي سبقه. واعتذرت هذه المرة بأن أخي لم يقدر على المجيء؛ فبرنامجه حافل بالمواعيد، ولكنه سيأتي يوم الجمعة القادم.
عندما التقينا، بادرني بأنه على استعداد أن يوصلني إلى البيت للاتفاق مع أخي. حزنت على عذابه في المرات السابقة، وصارحته بأن المعركة قد انتهت، وأن أخي لا يعمل في البناء، والمواعيد كلها لا أساس لها.
ضرب الطاولة بيده:
– الله أكبر ما أشد انتقامك يا رجل!
قال المدير وهو يضحك:
– مقلب مرتب!
وقال عزمي:
– لو كنت أعرف أنك ستفعل هذه الفعلة لتركتك تقفز من السيارة ذلك اليوم، وإلى الجحيم.
علق محمد:
– الوقوع معك صعب يا أبي!