بقلم ابراهيم السيوف
في الأفق ما يشبه الرجفة. ليست رجفة رياحٍ عابرة، بل نذير زلزالٍ قادم… فالعالم لا يقف على حافة هاوية هذه المرة، بل على حافّة العقل ذاته. وإيران، التي لطالما كانت محور التجاذب بين الشرق والغرب، تعود اليوم إلى بؤرة الاشتعال، ليس بسبب ملف نووي فحسب، بل لأن نارًا دفينة بدأت تتنفس.
إن الحديث عن قصف إيران ليس مجرد تسريب إعلامي أو جسّ نبض للرأي العام العالمي، بل هو إشارة إلى اختلال جوهري في موازين الردع الدولي، وارتجاف في أعصاب النظام العالمي المتآكل. فالقوة التي كانت تدّعي ضبط إيقاع الفوضى، باتت تفكر جدّيًا في القفز إلى قلبها.
إيران، بكل ما تحمل من تعقيد تاريخي واستراتيجي، ليست دولة قابلة للطيّ بجناح مقاتلة، ولا يمكن إسكاتها بقصف ممر نووي. هذه دولة قامت على فكرة المقاومة، وراكمت شبكة نفوذ عابرة للحدود، تمتد من مضيق هرمز إلى سواحل المتوسط، وتدير معاركها على الأرض وعلى الورق، بالعقيدة قبل البارود، وبالصبر قبل الصاروخ.
لكن في المقابل، هنالك عقل غربي قلق، مأزوم، تائهاً بين فوبيا الردع النووي وشهوة الهيمنة، بين إرث الخوف من “قنبلة شيعية” وبين خريطة المصالح التي تضيق فيها الخنادق وتتسع فيها الخسائر. تل أبيب تقف على أطراف أصابعها، وواشنطن تتحسس الزناد بيد مرتجفة؛ لا لأن الحرب سهلة، بل لأنها تعلم أن الحرب مع طهران تعني إشعال جغرافيا كاملة بعود ثقاب واحد.
من لا يتذكر؟ غزو العراق عام 2003 ظنّه البعض “نزهة تأديب”… وانتهى إلى لعنة استنزفت الأخضر واليابس، وأسقطت الهيبة الأمريكية في رمال الأنبار والفلوجة. هل يكرر التاريخ نفسه؟ إن طهران، بخلاف بغداد، ليست معزولة ولا مجرّدة من أدواتها. هي دولة صنعت “جيوبها السيادية” في لبنان واليمن وسوريا والعراق، وتحمل مفاتيح تفجير الإقليم من الداخل لا من الخارج.
أيّ قصفٍ لإيران لن يكون حرب ساعات، بل معركة سنوات. معركة تهتزّ فيها أسعار النفط، ويُخنق فيها مضيق هرمز، ويُشل فيها اقتصاد العالم. إنها ليست ضربة استباقية، بل مقامرة بالأمن العالمي، تمامًا كما فعل الجنون الأوروبي في الحرب العالمية الأولى حين ظنّ الجميع أن الحرب ستكون قصيرة… فإذا بها تحرق القارة برمّتها.
اقتصاديًا، أي تصعيد يعني فوران برميل النفط إلى سقوف جنونية، واضطراب الأسواق العالمية، ودخول العالم في أزمة طاقة لا تُبقي ولا تذر، تتضخم فيها الأسعار، وتنهار فيها سلاسل الإمداد، وتُفتح فيها أبواب الجوع على شعوب كانت حتى الأمس تصدّر “الاستقرار”.
سياسيًا، فإن قصف إيران يعني القضاء على آخر أوهام الدبلوماسية الدولية، وعودة منطق “البقاء للأقوى” في ظل انهيار أخلاقي مريع لمجلس الأمن ومؤسسات القانون الدولي. أيّ رسالة سيبعثها العالم حين يرى دولة تُقصف تحت تهديد ظنون، لا وقائع؟ ماذا يبقى من شرعية النظام الدولي إن أصبحت الحروب قرارات أحادية يتخذها جنرالات القلق في مكاتب مغلقة؟
أما شعبيًا، فإن ملايين الإيرانيين، مهما اختلفوا مع حكومتهم، لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام عدوان خارجي. ستتحول الهوية القومية إلى وقود تعبئة، وسيتحول الغضب الشعبي إلى نيران لن تنطفئ. وبدلاً من تغيير النظام، ستمنحونه شرعية البقاء عبر دماء الشهداء.
إيران ليست ضحية سهلة، لكنها أيضًا ليست نمرًا لا يُروّض. الحل لا يأتي من السماء عبر طائرة حربية، بل من طاولة تفاوض تُخرج العقل من حافة الجنون. فالحروب قد تبدأ بقرار، لكن لا أحد يملك قرار نهايتها.
لقد خُلق الشرق الأوسط من رحم النار، لكنه كلما ظنّ أنه اقترب من الرماد، عاد ليشتعل من جديد… والعالم، في صمته أو في تواطئه، إنما يمهّد لأكبر جريمة جيوسياسية في القرن الجديد.
فهل من عاقل يتقدّم، أم أن ساعة الجنون قد دقّت حقًا؟