بقلم: هشام بن ثبيت العمرو
في عمق المشهد الثقافي العربي الراهن، يبدو الوعي الجمعي ككائنٍ أصابه خدرٌ مزمن، يتنفس على إيقاع التكرار، ويتغذى على ما تُلقيه عليه ذاكرة مستهلكة. ولسنا بحاجة إلى نبوءات حداثية ولا إلى تنظيرات فلسفية كي ندرك أننا نعيش في مرحلة تاريخية تتصف بالشلل الرمزي، والفقر المفاهيمي، والاغتراب العقلي عن الحاضر ومقتضياته.
أمام هذا العجز المعرفي، تبدو الحاجة إلى مشروع تنوير فكري لا ترفًا فكريًا ولا طموحًا نخبويًا، بل ضرورة وجودية حيوية. فالأمم لا تنهض بالإيقونات المجوفة، ولا بالشعارات المستهلكة، بل بترسيخ العقل النقدي بوصفه القوة المحرّكة للوعي، ومنبع التقدم، ومحكّ الفعل الحضاري.
فلنأخذ التعليم كمختبر أولي لهذا الفشل الهيكلي. إن أنظمة التعليم في كثير من الدول العربية تُشبه مخازن تجميع لا معامل تفكير. الطالب فيها أشبه بكائن يُعبّأ بالبيانات، لا يُدرّب على تحليلها أو تشكيكها أو إعادة إنتاجها. في عام 2023 مثلًا، احتلت معظم الدول العربية ذيل الترتيب العالمي في مؤشرات جودة التعليم وفق تقارير مثل “TIMSS” و”PISA”، دون أن يتسبب ذلك بأي زلزلة للضمير المؤسسي أو مراجعة منهجية جادّة.
خذ مثلاً مادة “الفيزياء” في مدارسنا: تُقدّم كما لو كانت جملًا مُقدسة، لا علاقة لها بالحياة اليومية، مجرّدة من التطبيق، خالية من الارتباط بالواقع. الطالب يحفظ قانون نيوتن لكنه لا يجرّب، يعرف معادلة السرعة لكنه لا يُصمّم شيئًا. أي عبث هذا؟! لقد تكلّست المناهج حتى صارت تقتل الفضول بدل أن توقظه، تُصادر السؤال بدلاً من أن توقده.
أما في الحقل الاجتماعي، فالوضع لا يقلّ بؤسًا. الفرد يُقاس لا بمقدار فاعليته في مجتمعه، بل بانصياعه لقوالب نمطية تفرضها أعراف لا عقل فيها ولا معيار. المفاهيم تُدار بلغة التلقين الجمعي، لا بعقلانية السؤال. فتاة تقرأ نيتشه تُتهم بالتمرد، وشاب يقرأ فلسفة ديكارت يُوصم بالشك، وآخر ينادي بالمنهج العلمي يُنعَت بالعلمنة، كأننا في عصر محاكم تفتيش فكرية جديدة، ولكن هذه المرة داخل العقول، لا في الساحات.
والأدهى من ذلك أن المجتمعات تتواطأ ـ بحسن نية أحيانًا ـ في إنتاج هذا الانغلاق. فهي تُكرّس ثقافة الخوف من التميز، من المغامرة الفكرية، من “كسر السياق”. فيتم تفضيل التكرار الآمن على التجديد الخطر، والخضوع الصامت على الإبداع المشاغب. لقد صارت “الطاعة” قيمة عُليا، و”الاجتهاد الحر” رجسًا ينبغي استتابة صاحبه.
أما على مستوى الإنتاج العلمي، فالأرقام ناطقة بوضوح لا يرحم. بحسب مؤشر “Nature Index” لعام 2022، فإن المساهمة العربية في الأبحاث العلمية لا تزال أقل من 1% من الإنتاج العالمي، رغم أننا نشكّل أكثر من 5% من سكان الكوكب. فأين تُهدر العقول؟ وأين تتبخر الإمكانيات؟ إن الجامعات، باستثناء قلائل، تحوّلت إلى مؤسسات بيروقراطية لا تختلف كثيرًا عن إدارات المياه والكهرباء، إلا في اللوحات على الجدران.
ليست هذه دعوة إلى جلد الذات، بل إلى جلد البلادة، إلى تقشير قشرة الزيف والارتطام بحقيقة مروعة: لسنا على هامش التاريخ فحسب، بل خارج دفّته بالكامل، نرقب الأحداث من النوافذ، ونسأل فقط: “ما الجديد في الخارج؟”
نحن بحاجة إلى إعادة هندسة العقل العربي، من الجذر لا من القشرة. نحتاج إلى أن نحرّر التفكير من سلطة التقديس الأعمى، إلى أن نعيد تعريف “النجاح” لا بوصفه مالًا أو شهادة، بل كقدرة على الخلق والتأثير والمساءلة. نحتاج إلى ثقافة تُكافئ السؤال، لا تكتمه، إلى بيئة تُعلّم الطفل كيف يكون إنسانًا كامل الوعي، لا مجرد أداة للامتثال.
إن النهضة الحقيقية لا تبدأ حين نملك التكنولوجيا، بل حين نخلقها. لا حين نقتني المصانع، بل حين نؤسّس ذهنية صانعة. لا حين نُشيّد ناطحات سحاب، بل حين نمتلك أعمدة فكرية تصمد أمام الزوال.
وإلى أن نبلغ ذلك، سيظل حالنا كمن يطرق باب الوعي بعصا الحنين، ويطلب التقدم بثمن الخوف، ويرجو النهضة في صندوق محفوظ بـشَرط “عدم الفتح قبل مرور قرن”.