بقلم الدكتور عامر بني عامر
في منطقةٍ تشتعلُ من أطرافِها كلَّ عقدٍ من الزمن، وتتهاوى فيها دولٌ وأنظمةٌ ومجتمعاتٌ، يبقى سؤالٌ بسيطٌ ومركّبٌ يُلحُّ على مَن يُراقبُ المشهدَ من بعيدٍ أو قريب: ما سرُّ بقاءِ الأردنِّ صامدًا؟ ما هي “الخلطةُ الأردنيةُ” التي صَنعتْ هذا الاستقرارَ، رغمَ العواصفِ المتتاليةِ؟
في مناسبةِ عيدِ الجلوسِ الملكيِّ السادس والعشرين، حيثُ نستذكرُ تولّي جلالةِ الملكِ عبدِاللهِ الثاني سلطاتِه الدستوريةَ، لا نحتفلُ فقط بحدثٍ سياسيٍّ دستوريٍّ، بل نطرحُ سؤالًا وطنيًّا عميقًا: ما سرُّ بقاءِ الأردنِّ واقفًا حين تعثّرتْ دولٌ، ومتماسكًا حين تشققتْ مجتمعاتٌ، وآمنًا وسطَ إقليمٍ يعجُّ بالنيرانِ؟
رغمَ الجغرافيا الضاغطةِ، وشُحِّ المواردِ، وتوالي الأزماتِ، ظلَّ الأردنُّ متماسكًا في قلبِ منطقةٍ لا تعرفُ السكونَ، لم يكنْ ذلكَ مصادفةً، بل نتاجَ خلطةٍ دقيقةٍ نُسجت عبرَ عقودٍ، وبلغتْ نُضجَها في ربعِ القرنِ الأخيرِ. هذه هي مكوّناتُ “الطبخةِ الأردنيةِ” التي تستحقُّ التأمُّلَ.
الخلطةُ الأردنيةُ لها خمسةُ مكوّناتٍ رئيسيةٍ:
١. قيادةٌ مرنةٌ وصلبةٌ في آنٍ واحدٍ.
الملكُ عبدُاللهُ الثاني أدارَ البلادَ بطريقةٍ متوازنةٍ: لا تَهَوُّرَ، ولا خضوعَ. يعرفُ متى يصمتُ ومتى يتكلمُ، متى يشتبكُ ومتى يترفع، ولا يُساومْ على الكرامةِ. ليس شعبويًّا، وليس نخبويًّا. يمشي على الخيطِ الرفيعِ بحكمه بين الداخلِ والخارجِ، ويعرفُ كيف يقرأُ التحوّلاتِ العالميةَ حتى قبلَ أن تقعَ.
٢. مؤسّساتٌ أمنيّةٌ محترفةٌ ومتجذّرةٌ.
الأمنُ في الأردنِّ ليس صدفةً، بل عقيدةٌ. الأجهزةُ الأمنيةُ فَهِمَت المجتمعَ، وتطوّرتْ من أدواتٍ تقليديةٍ إلى أدواتٍ وقائيةٍ، ومن ردِّ الفعلِ إلى استباقِ الفعلِ. التحدّياتُ التي واجهها الأردنُّ من الإرهابِ والتطرّفِ كانت كفيلةً بإسقاطِ دولٍ، لكن ما تزالُ الدولةُ متماسكةً، دون عسكرةٍ، ولكن الجميع يتفق أن حضننا الأردنيين الآمن دوماً هو أجهزته الأمنية وهذه معادلة ليست سهلة التفسير.
٣. مجتمعٌ واعٍ بهويّتِه، ومتوازنٌ في أولويّاتِه.
الأردنيونَ ليسوا سُذّجًا، بل يُدركون أنّ سقفَ الواقعِ أحيانًا أقوى من سقفِ الطموحِ. ينتقدونَ، يعارضونَ، يشتكونَ، لكنهم لا يدفعونَ نحو الانتحارِ الجماعيِّ. في لحظةِ الخطرِ، الكلُّ يُمسكُ على الجمرِ، لأنهم يعرفونَ أنّ ما يجمعهم أعمقُ من كلِّ الاختلافاتِ.
في الأردنِّ، لم تكنِ الهويةُ الوطنيةُ نقيضًا للهويّاتِ الفرعيةِ، بل إطارًا ناظمًا لها. فالتنوّعُ الاجتماعيُّ لم يُنتِجْ تصادُمًا، بل اندماجًا واعيًا، حافظَ على التماسكِ في المفاصلِ الحرجةِ، وصانَ العقدَ الاجتماعيَّ حتى في أقسى المراحلِ.
هذا الإدراكُ الجمعيُّ لهويّةٍ وطنية جامعةٍ، لا تُقصي أحدًا، هو واحدٌ من أسرارِ “الطبخةِ الأردنيةِ” التي لا تُقلبُ على وجهِها، حتى عندما يغلي الإقليمُ من كلِّ الجهاتِ.
٤. تحالفاتٌ حذِرةٌ، لا ارتهاناتٌ.
علاقاتُ الأردنِّ بدولِ الخليجِ، وأمريكا، وأوروبا، وحتى اسرائيل، لم تكنْ خاليةً من التوتّرِ، فالدعمُ تراجعَ، الشروطُ ازدادتْ، والمواقفُ الأردنيةُ لم تكنْ دائمًا مُرضيةً لحلفائِه، لكنّ الخلطةَ الأردنيةَ كانت واضحةً: “نحمي مصالحَنا، ونوازنُ بين التحالفِ والاستقلاليةِ.”
٥. الملكُ لم يتعاملْ مع الحكمِ كمجرّدِ سلطةٍ، بل كمَهمّةٍ تاريخيّةٍ.
لم يكنْ ملكًا بسلطته فقط، بل قائدًا آمنَ بأنّ الأردنَّ يجبُ أن يبقى، مهما كانتِ التكلفةُ. في لحظاتٍ كثيرةٍ، كان بإمكانِه أن يُقدّمَ تنازلاتٍ سهلةً ليشتري الوقتَ، لكنه اختارَ الطرقَ الأصعبَ ليحمي الوطنَ من الداخلِ.
هذه المكونات الخمسة للخلطة الأردنية، والتي تحتاج مجلدات ومذكرات والاف الصفحات لشرحها وتوضيحها، مع ذلك وفي خضمِّ كل ما سبق، جاء حدثٌ بسيطٌ في شكلِه، لكنه كبيرٌ في رمزيتِه: تأهّل منتخبُنا الوطنيُّ إلى نهائياتِ كأسِ العالمِ.
ليس مجردَ إنجازٍ رياضيٍّ، بل إشارةٌ: إذا صمدْنا، واستثمرْنا، وآمنّا بأنفسِنا، نستطيعُ أن نصلَ.
هو أكثرُ من هدفٍ في مرمى الخصمِ، هو هدفٌ في مرمى الإحباطِ.
فكما تأهّل “النشامى”، قد تتأهلُ إرادتُنا الجماعيةُ إلى مستقبلٍ نُريدُ أن نكونَ فيه، لا أن نُتركَ إليه.
إذًا ما سرُّ الطبخةِ الأردنيةِ؟
هي مزيجٌ بين شرعيةِ القيادةِ، وحكمةِ الإدارةِ، ويقظةِ المجتمعِ، وتماسكِ الأجهزةِ، وسياسةٍ خارجيةٍ تمشي على الحبلِ من دون أن تقعَ. ليست وصفةً مثاليةً نظرياً، لكنها وصفةٌ واقعيةٌ، قابلةٌ للحياةِ، قادرةٌ على منعِ الانهيارِ حين ينهارُ الآخرونَ.
وكما اعتدْنا أن نُحسنَ الطهوَ في المراحلِ الحرجةِ، اعتدْنا أيضًا أن نُراجعَ المقاديرَ كلّما تطلّبَ الواقعُ، لأنّ الاستقرارَ بلا عدالةٍ يتحوّلُ إلى جمودٍ، ولأنّ قوّةَ الوصفةِ ليستْ فقط بما فيها، بل بقدرتِنا على تعديلِها دون أن نُفسدَ طعمَها.
وبقيتِ الطبخةُ الأردنيةُ تُطهى على نارٍ وطنيّةٍ هادئةٍ، لا تحترقُ… ولا تبردُ، وما أحوجَنا في هذه المناسبةِ إلى أن نستثمرَ هذا الثباتَ في مراجعةٍ واعيةٍ تُحصّنُ الإنجازَ وتُعزّزُ ما بعدَه.