السيوف يكتب: الهيمنة الناعمة تنهار: الغرب يفقد احتكاره للرواية العالمية

21 ثانية ago
السيوف يكتب: الهيمنة الناعمة تنهار: الغرب يفقد احتكاره للرواية العالمية

بقلم: إبراهيم السيوف

في عالمٍ اعتاد أن يُروى من فمٍ واحد، بدأ الصمت يُتمرد.
وفي ساحةٍ اعتاد فيها الغرب أن يكون الراوي، والمخرج، والقاضي، والجلاد، ها هو يخسر سيطرته شيئًا فشيئًا، لا عبر معركة عسكرية ولا انهيار اقتصادي، بل بانكشاف الحقيقة، وتهاوي السردية.

لقد كان الغرب، طوال العقود الماضية، يمارس هيمنة ناعمة لا تقل قسوة عن الاستعمار الصلب، لكنها ترتدي ثياب الحرية، وتتكلم لغة حقوق الإنسان، وتوزع جوائز نوبل على من يتقن ترديد صداها. كانت الكلمة بيد واحدة، والصورة بعدسة واحدة، والحكاية بصوتٍ واحد، لا يُسمح لغيره بالهمس حتى، فما بالك بالقول.

لكننا اليوم نقف على عتبة زمن تتشقق فيه الرواية الكبرى. تتهاوى فيه تلك الصياغات المنمّقة التي فرضت نفسها كحقائق كونية. لم يعد بالإمكان أن تُقنع شابًا في الضفة أو في داكا أو في نيروبي أن الديمقراطية تُصدّر عبر حاملات الطائرات، ولا أن حرية التعبير تعني إغلاق أفواه طلاب الجامعات إن نطقوا بكلمة “غزة”.

لقد انكشف الوجه، وتعرّت الأقنعة.

ما عاد الإعلام الغربي معيارًا للصدق، بل صار في عيون كثيرين آلة بروباغندا تخدم مصالح الناتو، وتُهندس الوعي وفق ما يُرضي الممولين وخزائن السلاح. وما عادت مؤسسات الفكر والسياسات في واشنطن ولندن معابد تُنتج الحقيقة، بل مصانع تُخرّج الكذب المؤسس.

إن الغرب لم يعُد يحتكر المعنى، لأن الشعوب التي عانت من طغيان معناه بدأت تكتب روايتها.
صوت الصين لم يعُد خافتًا.
صورة روسيا لم تعد مرسومة بفرشاة خصومها.
الجنوب العالمي لم يعُد يقبل بدور المتفرج في مسرحٍ لا يدعو أبناءه إلى الخشبة.

ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، يتساقط وهج “الرواية الغربية” كما يتساقط طلاء زائف عن جدار متشقق. لا لفراغٍ في اللغة، ولكن لانكشاف النوايا. ولا لضعف في الصوت، بل لقوة الأصوات الأخرى التي كانت تُخرس.

إنّ الهيمنة الناعمة لا تنهار بصخب، بل تتفكك في صمت. تنهار حين يفقد الخطاب بريقه، حين يُصاب القاموس بالتكلّس، وحين تنقلب شعارات “الحرية” إلى أصفاد لغوية تخنق كل من لا يصفق.

والأخطر من كل ذلك، أن الانهيار لا يأتي من خارج المنظومة، بل من داخلها: من التناقض، من الكذب المكشوف، من العُري الأخلاقي الذي لم تعد تستره كلمات مثل “ديمقراطية” و”تحالف القيم”.

ما عاد يُخيفنا مصطلح “النظام الدولي الليبرالي”، لأنه بات أشبه بمومياء محنطة: محفوظة في المتاحف، تُستخدم لتهديد الأطفال، لكنها لا تملك القدرة على الحركة أو التأثير.
وما عاد يُدهشنا أن يُعاد انتخاب ترامب، فالعالم تعلم أن الغرب يُفرّخ ما يحتقره، وأن الحرية المطلقة التي يتغنون بها، تنجب فوضى سياسية تُغلف بأشرطة وردية.

والحقيقة التي لم يعد يُمكن إنكارها، هي أن من يملك الكاميرا لم يعد يملك الحقيقة، وأن من يكتب الخبر لم يعد يصوغ الرواية.
لقد خرجت الشعوب من كهف التلقي، وبدأت تُدوّن، تُصوّر، تُحلل، وتُقاوم.

نحن لا نعيش فقط نهاية هيمنة ناعمة، بل نعيش بداية زمن تُحرر فيه اللغة من سطوة القوة، ويُستعاد فيه المعنى من قبضة الاستعمار اللغوي.

إننا أمام لحظة تاريخية فارقة، ستُسجل لا بوصفها هزيمةً للإعلام الغربي، بل كهزيمة للرؤية الأحادية للعالم، لاحتكار الفهم، لصناعة الخرافة بلباس العلم.

ولعل أهم ما في هذا الانهيار، أنه لا يُدار من غرفة عمليات، بل يُصاغ من قِبل الشعوب، من قِبل جيل لا يهاب المقدسات السياسية، ولا يعترف بوصاية الحضارة الغربية على مصيره أو لغته أو قيمه.

الهيمنة تنهار.
والكلمة تعود إلى أهلها.
والعالم، كما نعرفه منذ الحرب الباردة، يكتب الآن فصلاً جديدًا… بلغة لا تكتبها واشنطن.