الاقتصاد السياسي للولاء في الأردن: حين تُرتهن النُخب وتبقى الدولة

2 يونيو 2025
الاقتصاد السياسي للولاء في الأردن: حين تُرتهن النُخب وتبقى الدولة

بقلم ابراهيم السيوف

في قلب نظرية الاقتصاد السياسي، وتحديدًا عند مفترق العلاقة بين “الشرعية” و”الريع”، تبرز الدولة الأردنية نموذجًا فريدًا لصياغة العلاقة بين السلطة والنُخب، ليس فقط بوصفها سلطة توزيع أو قوة ضبط، بل كفاعل عقلاني يمارس الحكم ضمن حقل معقد من التوازنات، والمراهنات، والضغوط البنيوية.

إنّ من يتأمل التجربة الأردنية في إدارتها لعلاقتها بالنُخب يجد أمامه مشهدًا لا يُقرأ بأدوات الاستشراق السياسي ولا بسطحية الصحافة المأزومة. فالدولة الأردنية، منذ تأسيسها، لم تكن دولة ريعية تقليدية تنتج الطاعة عبر الرشوة، ولا دولة دكتاتورية تُفرغ المجال العام من أصواته، بل دولة عقلانية حذرة، فهمت مبكرًا ـ وبفطرة سياسية هاشمية ـ أن الشرعية لا تُشترى، بل تُبنى، وأن الولاء لا يُطلب، بل يُكسب.

لكن، في المقابل، وضمن تحولات البنية الاجتماعية والسياسية التي عصفت بالمنطقة، عرفت العلاقة بين السلطة والنُخب الأردنية نوعًا من التشوه البنيوي. إذ تَخلّق عدد كبير من النُخب ـ سواء العشائرية، أو البيروقراطية، أو الاقتصادية ـ ضمن فضاء من الامتيازات المشروطة، ما أنتج مع الوقت “ثقافة ولاء مشروط”، لا انتماء عضوي للدولة. وهنا، يصحّ استدعاء ما كتبه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي عن “الهيمنة الثقافية”، حيث لا تكون السلطة قمعًا مباشرًا، بل توافقًا اجتماعيًا هشًا تُعيد النُخب إنتاجه ما دام يخدم مصالحها.

لقد تعاملت الدولة الأردنية، على مدى عقود، مع النُخب كحلفاء ظرفيين، لا كممثلين دائمين عن “العقد الوطني”. فالعشائر التي وقفت سدًا منيعًا مع الدولة زمن التأسيس، كانت صمام أمان حقيقي، لا مجرد أدوات ولاء، والبيروقراطية التي حافظت على كيان الدولة في زمن التقشّف، لم تكن امتدادًا للسلطة بل نُخبة تؤمن بالدولة. لكن ـ وبفعل الليبرالية الاقتصادية التي اجتاحت العالم منذ تسعينات القرن الماضي ـ تغيرت خريطة النُخب.

برزت نخب رأسمالية هجينة، لا ترتبط بهوية وطنية واضحة، بقدر ما ترتبط بشبكات المال والتأثير الإقليمي والدولي. وتحول بعضها من حليف تقليدي للدولة إلى “كارتل مصالح” يفاوض الدولة لا من أجل الصالح العام، بل من أجل البقاء داخل دائرة السلطة بأي ثمن. وما زاد الطين بلّة، أن بعض هذه النخب ارتدى خطاب المعارضة حين جفّت منابع الامتياز، وتحوّل إلى نقد الدولة لا لتحسين أدائها، بل للضغط عليها واسترداد ما يراه “حقاً مكتسباً”.

الدولة الأردنية، بعقلها الأمني الناضج ومؤسساتها السيادية، لم تكن غافلة عن هذه التحولات. لكنها ـ بحكم خصوصية الجغرافيا السياسية ـ فضّلت إدارة هذا التناقض بـ”المرونة الإستراتيجية”، أي أنها مارست ضبط إيقاع التحالفات دون كسرها، وأبقت على قنوات التواصل دون أن تسمح بانفلات العقد الوطني. وهو ما يُفسر بقاء الأردن صامدًا أمام أعتى التحولات الإقليمية، من حرب العراق إلى زلزال الربيع العربي، ومن الانقسام الفلسطيني إلى التقاطع بين تل أبيب وطهران في عمق المنطقة.

الاقتصاد الريعي ـ بمنظوره الأدبي لا التنموي ـ ليس عيبًا في ذاته، بل هو خيار تكتيكي تتبناه الدول حين تضطر لحماية كيانها السياسي. والدولة الأردنية لم تتعامل مع الريع بوصفه أداة لاسترضاء النُخب، بل بوصفه شبكة أمان اجتماعية تحفظ الحد الأدنى من التوازن بين المكونات. والدليل على ذلك، أن الأردن لم يغرق ـ كما غيره ـ في الفساد المؤسسي الشامل، ولا في بيع المواقف السيادية، بل ظل وفيًا لتحالفاته، ملتزمًا بأخلاقيات الجغرافيا والسياسة معًا.

وإذا كانت النُخب تراجع اليوم خطابها، وتُعيد تعريف علاقتها مع الدولة، فإن المسؤولية تقع أولًا على تلك الفئات التي اعتادت أخذ الدولة كأمر مُسلّم به، دون أن تدفع كلفة الحفاظ عليها. الدولة لا يُطلب منها أن تشتري الولاء، بل يُطلب من النُخب أن ترتقي إلى لحظة المسؤولية، أن تُنظّر لمفهوم جديد للانتماء، لا يقوم على الامتياز بل على الإيمان بالدولة كمشروع حضاري طويل الأمد.

وفي ضوء هذا كله، فإن ما يُكتب اليوم عن ضعف الدولة أو انكماش الشرعية، هو أقرب إلى أمنيات نُخب فشلت في التموقع، لا تحليل موضوعي لطبيعة النظام السياسي الأردني. الدولة، ببساطة، ما زالت تمتلك أدوات التماسك، وشرعيتها لم تأتِ من صناديق الرفاه بل من جغرافيا الأخطار، وتاريخ التحمل، وعقلٍ سياسي حافظ على كيان البلد حين سقطت دول كانت أغنى وأكثر انفتاحًا.

الأردن ليس دولة ريعية فاشلة، بل دولة مقاومة للاستنزاف، عصية على التفكك، تعرف من تصادق، ومن تراقب، ومتى تَصمت. وأما النُخب، فعليها أن تُدرك أن زمن الامتياز المشروط قد ولّى، وأن من لا يرى في الدولة مشروعه الأبدي، فلا مكان له في ظل الراية الأردنية.