وطنا اليوم_بقلم نضال الثبيتات العمرو..
تُظهر مقاطع فيديو متداولة عبر منصات التواصل الاجتماعي منذ عامين تقريباً هجوماً ممنهجاً يستهدف الدولة الأردنية ومؤسساتها؛ إذ تتنوع أساليب هذا الهجوم بين التملق المبطن والتخوين الصريح وصولاً إلى السخرية اللاذعة؛ فيما يتركز محتوى هذه المقاطع بشكل خاص على التشكيك بعقيدة الجيش العربي والأجهزة الأمنية؛ بل يتجاوز الأمر ذلك ليصوّر العقل المدبر للدولة أو ما يعرف بالدولة العميقة ككيان قاصر أو عاجز؛ حيث يقدم المتحدثون أنفسهم كأوصياء على هذا العقل المفترض؛ وهو ما يشكل خطراً حقيقياً على وعي الأجيال الناشئة وتصورها لدولتها؛ مما يتطلب تفنيد هذه الادعاءات فهماً عميقاً لطبيعة العلاقة بين الدولة والمواطن؛ لا سيما فيما يتعلق بمفاهيم الولاء والانتماء الراسخة؛ لأن الدولة الأردنية وعقلها الاستراتيجي ليسا بحاجة إلى وصاية من أحد.
يمثل مفهوم عقل الدولة تجسيداً لقدرتها الجوهرية على التفكير الاستراتيجي وصناعة القرار الرشيد؛ إذ لا يتخذ هذا العقل شكلاً مادياً ملموساً؛ بل هو منظومة معقدة ومتشابكة من المؤسسات والآليات والكفاءات التي يُفترض بها العمل بتناغم لتحقيق المصالح العليا للوطن وضمان استقراره وسيادته؛ وهنا تتمركز القيادة السياسية في قلب هذا العقل؛ إذ توجه بوصلته وتحدد أولوياته الكبرى؛ لكنها تستند بالضرورة إلى شبكة واسعة من الأجهزة الاستخباراتية والتحليلية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والصحية والتعليمية والتنموية؛ بحيث يمثل كل جهاز خلية حيوية ترفد المركز بالمعلومات والتقديرات والرؤى؛ وتسهم مجتمعة في بلورة القرارات الحاسمة؛ كما يقودنا الحديث عن مكان وجود هذا العقل إلى إدراك طبيعته الموزعة والمركبة؛ فهو ليس محصوراً داخل جدران القصر أو مقر رئاسة الوزراء فحسب؛ بل يمتد تأثيره ونشاطه ليشمل مراكز الدراسات الاستراتيجية ذات الاعتبار؛ والجامعات التي ترفد الدولة بالخبرات الوطنية؛ والمجالس الاستشارية المتخصصة؛ وحتى النقاشات المجتمعية الجادة التي تعكس نبض الشارع وتطلعاته الوطنية للوصول بالوطن إلى أبهى صورة؛ خصوصاً حينما تجد آذاناً صاغية؛ فتكمن ديناميكية هذا العقل بقدرته على استيعاب المتغيرات الداخلية والخارجية؛ وتحليلها بعمق؛ ومن ثم تقديم الاستجابات (السريعة، والبطيئة احياناً كثيرة) المناسبة لها ؛ سواء كانت تحديات أمنية أو اقتصادية أو اجتماعية أو صحية أو إعلامية وغيرها؛ إذ إن الفشل في استيعاب هذه المتغيرات أو سوء تقديرها سينعكس مباشرة على أداء الدولة وقدرتها على حماية مصالحها.
تُظهر بعض المقاطع المصورة محاولة يائسة لتوصيف الولاء والانتماء وتوطيد الوحدة الوطنية بأسلوب لا يمكن وصفه إلا بسياسة التضليل الماكرة (سياسة الزُّنجي الأبيض)؛ وهي تلك التي تضمر حقداً دفيناً تجاه الدولة ومكوناتها؛ بينما تُظهر بياضاً زائفاً بكلمات مسمومة؛ ففي هذا السياق، يُعد القول بأن من يدافعون عن الأردن عبر منصات التواصل الاجتماعي في وجه الهجمات التخوينية والتشكيكية للدولة ونظامها وجيشها وأجهزتها الأمنية يسعون لبث الفرقة؛ وتصوير الآخرين كقطيع من الجهلة المنساقين؛ ادعاء باطلاً يراد به تثبيط عزائم المدافعين؛ وهو طرح يستخف بعقل الدولة ويفترض غفلته عن هذه الترهات؛ غافلاً عن أن ولاء المواطن وانتماءه بناء معقد يتجاوز الالتزام القانوني البحت؛ ليشمل أبعاداً معرفية وعاطفية وسلوكية ودفاعية متجذرة؛ وذلك لأن الولاء للوطن حالة من الالتزام السلوكي والوجداني تتجذر في الشعور بالانتماء العميق؛ ويمكن أن يُوجَّه نحو فرد أو مجموعة أو مؤسسة؛ كما يتجلى هذا الولاء في مشاعر الحب والدعم والإخلاص والطاعة لنظام الدولة وأرض الوطن بحد ذاتها؛ ويشكل حجر الزاوية في الالتزام بالأنظمة والقوانين والقيم الاجتماعية السائدة؛ إذ يتضمن الانتماء الوطني؛ على وجه التحديد؛ وعياً بما هو جدير بالرغبة للوطن؛ مصحوباً بمشاعر إيجابية؛ وتَبنّي القيم الوطنية كمعيار للسلوك الشخصي؛ كما يشكل دافعاً قوياً للإنجاز الوطني والعمل الجماعي؛ كما وتتجلى المظاهر الملموسة للولاء الوطني في التضحية من أجل الوطن؛ وأداء الواجبات المدنية بجدية؛ والمشاركة في الأعمال التطوعية والخيرية؛ والحفاظ على التراث الثقافي؛ وتعزيز الوحدة الوطنية.
تشكل مسألة إظهار عقل الدولة بمظهر المشكك في ولاء وانتماء أبناء الوطن؛ خصوصاً أولئك الذين يقفون في خطوط الدفاع الأمامية سواء كانوا جنوداً على الحدود أو مواطنين ينافحون عن وطنهم عبر منصات التواصل الاجتماعي ضد حملات التشكيك والتخوين؛ معضلة سياسية وأخلاقية شائكة للغاية؛ لأنها تفتح افتراضات خطيرة حول سلامة هذا العقل ذاته؛ ومدى استيعابه لحقائق الواقع وتوازنات القوى الداخلية؛ إذ إن الولاء للوطن ليس شعاراً يُرفع؛ بل هو ممارسة يومية وتضحيات تُقدَّم؛ وإذا ما جاء التشكيك من المؤسسة التي يُفترض بها أن تكون الحاضنة الأولى لهذا الولاء (كما يحاولون اظهارها)؛ فإن الأمر يكتسب أبعاداً خطيرة؛ وهنا يزخر التاريخ السياسي بأمثلة لدول ارتكبت أخطاء فادحة حينما سمحت للشك والريبة بأن تطال شرفائِها ومناضليها؛ وكانت النتائج دائماً كارثية؛ ليس فقط على صعيد الحقوق الفردية والعدالة؛ بل أيضاً على صعيد تماسك الدولة وقدرتها على مواجهة التحديات؛ لهذا يتميز عقل الدولة الحصيف بقدرته على التمييز بدقة بين النقد البناء الذي يهدف إلى الدفاع عن تاريخ وإرث هذا الوطن وأجهزته؛ وبين الخيانة والتآمر الذي يستهدف هدم الكيان الوطني؛ وستصبح نظرة أبناء الوطن الذين يُكرّسون حياتهم وجهدهم للدفاع عنه (من ذاك البطل المُتَمَتْرِسْ على الحدود ووالده وعمه وخاله وجده المتقاعدين العسكريّين ويُشكّك في عقيدتهم ودينهم، الى أولئك الذين يتصدون عبر منصات التواصل الاجتماعي)؛ إذا ما وجدوا أنفسهم في دائرة الاتهام والتشكيك والتشبيه الدوني من قِبل عقل الدولة ذاته( كما أرادوا اظهاره)؛ نظرة تحمل مرارة عميقة وإحساساً بالغُبن يصل إلى حد الصدمة؛ ويشعر هؤلاء الأفراد وتلك الأجهزة؛ الذين يرون في ولائهم للوطن قيمة عليا لا تقبل المساومة؛ وفي تضحياتهم واجباً مقدساً؛ بأن سهام الخيانة قد وُجِّهت إليهم من حيث لم يتوقعوا؛ ويتضاعف الإحساس بالظلم حينما يكون مصدر هذا التشكيك هو المؤسسة التي يُفترض بها أن تكون الأكثر دراية بإخلاصهم والأكثر تقديراً لجهودهم؛ وتختلف ردود الفعل تجاه هذا الموقف؛ إلا أنها غالباً ما تتسم بمزيج من الألم والحيرة والغضب؛ فقد يلجأ البعض إلى الصمت؛ مُعتبرين أن الزمن كفيل بإظهار الحقيقة؛ في حين قد يسعى آخرون إلى تبرئة ساحتهم بكل الوسائل المتاحة؛ لإيمانهم بأن السكوت عن الظلم قد يُفسّر على أنه إقرار به؛ وقد يدفع الشعور بالخذلان البعض إلى مراجعة مواقفهم؛ ليس من الوطن ذاته؛ فالوطن يظل قيمة ثابتة؛ وإنما من الآليات التي يعمل بها عقل الدولة ومن الأشخاص القائمين عليه؛ مما يؤدي إلى تعرض الثقة؛ وهي ركيزة أساسية في العلاقة بين المواطن والدولة؛ لشرخ عميق يصعب رأبه بسهولة.
يعلم الجميع أن الدولة الأردنية أصدرت قبل شهر وأسبوع قراراً حاسماً بمنع القوى السياسية ووسائل الإعلام ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة ومؤسسات المجتمع المدني وأية جهات أخرى من التعامل أو النشر لما يسمى بجماعة الإخوان المسلمين المُنحلّة وكافة واجهاتها وأذرعها تحت طائلة المساءلة القانونية؛ وهو تأكيد من الدولة على أن استمرار الجماعة المُنحلّة بممارساتها من خلال أدواتها الإعلامية الكلاسيكية والرقمية الحديثة يعرّض مجتمعنا لمجموعة من المخاطر ويؤدي إلى تهديد حياة المواطنين؛ ويحتفظ أرشيف الإعلام الأردني بما يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك تبعية أحد الأحزاب الراديكالية الحالية لهذا التنظيم؛ في حين تتزامن هذه التطورات مع ظهور مقاطع الفيديو التي سبق الحديث عنها؛ وهي المقاطع التي تشكك وتبعث رسائل للقواعد التخريبية للخروج للشارع بهدف استنزاف الأجهزة الأمنية والدولة وتخوينها في ذات التوقيت؛ لذا تمثل هذه المحاولات التفافاً خطيراً على عقل الدولة ومحاولة لإظهاره بصورة لا تليق به؛ فهل سيعمد عقل الدولة لتنفيذ قراراتها الشجاعة؟ ولا تقولو لنا Slowly .. Slowly .. But Surly ؛ وتذكروا أن العليق ما ينفع وقت الغارة؛ وما يحدث الآن هو نتيجة التساهل الذي مُنح لهم؛ والآن هم يغرسون الفتن بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، ويطالبون بشِبرّية ورشاش .. يا هل ترى لمن ستستخدم الشِّبريّة والرشاش؟
إن التشكيك في ولاء المدافعين عن الوطن يُلقي بظلال قاتمة على النسيج المجتمعي برمته؛ ذلك أن المواطن حين يرى أن المخلصين يمكن أن يصبحوا هدفاً للتشكيك والتخوين والتشبيهات المهينة؛ تتولد حالة من الإحباط واللامبالاة؛ وهي حالة تُضعف من دوافع الأجيال الجديدة للانخراط في الشأن العام والدفاع عن المصالح الوطنية؛ كما يوقِع عقل الدولة الذي يرتكب مثل هذا الخطأ (كما أرادوا ان يظهروه) في فخ لا يضر فقط بأفراد بعينهم؛ بل يضر بمفهوم المواطنة ذاته؛ ويفتح الباب أمام حالة من عدم اليقين والرّيبة التي تستغلها القوى المعادية للوطن في الداخل والخارج؛ وهذا يستدعي أن تتطلب استعادة الثقة جهداً كبيراً ومخلصاً؛ يبدأ بالاعتراف بالخطأ إن وقع؛ ورد الاعتبار للمظلومين؛ ومراجعة الآليات التي أدت إلى وقوع مثل هذا الخلل في التقدير والحكم؛ لتبقى حصانة الوطن منيعة؛ وعقل دولته يقظاً؛ يميز الخبيث من الطيب؛ ويحمي ظهر المدافعين عنه.