القفز بعيدًا عن النص

24 مارس 2025
القفز بعيدًا عن النص

كتب د. محمد عبد الله القواسمة

كتب الشاعر علي البتيري في جريدة الدستور يوم الجمعة 14 آذار ردًا وتوضيحًا لمقالتي “شاعر القدس”، التي نُشرت في الدستور يوم 7 آذار يتهمني بأني أعترض على إطلاق لقب شاعر القدس عليه، وأني أقلل من تجربته الشعرية، وتميزه، ورأى أن العدو الإسرائيلي هو ما يمكن أن يغتاظ من لقبه، ثم يمضي ليتحدث عن حياته ومقالاته والجوائز الكثيرة التي نالها، وعن إنجازاته الشعرية منها مجموعتاه: “القدس تقول لكم” و”القدس ليست بعيدة”، ويختم رده وتوضيحه ببيتين من الشعر يرسخان بأنه شاعر القدس، يقول فيهما:
ما طاب لي موتُ/ في الحب لولاكِ/ يا قدسُ لا كنتُ/ إن كنتُ أنساكِ.

ولعل من المحزن، والمستحق الرثاء على شاعر حمّل نفسه لقب شاعر القدس أن يعيد على حسابه الفيسبوكي نشر تعليقات بعض الزملاء من الأدباء والشعراء على رده وتوضيحه، كل تعليق على حدة، أي في بوست منفرد، ليُظهر كأن كل واحد منهم يدعمه في رأيه، ويقف إلى جانبه في شكواه وغضبه على القواسمة ونصه.

أعجب أني لم أتناول الشاعر لا بمدح ولا ذم في مقالتي المذكورة، فلم يكن موضوع المقالة عنه بل كان عن ظاهرة شعرية تضم مجموعة من الشعراء يطلق كل منهم على نفسه، أو أن الآخرين أطلقوا عليه لقب شاعر القدس، من أمثال هؤلاء: تميم البرغوثي، ويوسف العظم، وداود معلا، وعز الدين أبو ميزر، وفوزي البكري. وتضم الظاهرة بالتأكيد علي البتيري وغيره حتى الشاعر التركي نوري باكديل صاحب ديوان” الأمهات والقدس”.

نلاحظ بأن الأخ البتيري في كلمته لم يناقش موضوع المقالة، وينقض ما جاء فيها، وكان هذا من حقه، ومن حق أي متلق، بل إنه رأى نفسه الظاهرة كلها وليس جزءًا منها، فهو وحده من حمل اللقب، وبالتالي عمد إلى الحديث عن نفسه والإعلاء من شأنها، ووصفني بأني أعترض على لقبه، وأستكثره عليه، ويقول إنه ” كان يمكن أن يغيظ هذا اللقب العدو المحتل الذي يعمل على تهويد مدينة القدس العربية الإسلامية لا أن يغيظ كاتبًا عربيًا من مدينة الخليل”

من الواضح أن هذا القول يقفز بعيدًا عن موضوع المقالة من ناحية، ويحملني ما لم أفعله أو أقله من ناحية أخرى، بل أذكر بأني كتبت عن الشهادة والشهيد في مجموعته الشعرية ” للنخيل قمر واحد”. وكان وقتها معظم شعره للأطفال، ولم يتبن لقب شاعر القدس، وفي تواصل معه أثنى على ما كتبت، وقال إنه سينشر المقال في كتاب سيصدر عنه.

كان يستطيع في كلمته، أي في رده وتوضيحه أن يصف نفسه بأنه امبراطور الشعر المقدسي، أو أمير شعراء بيت المقدس، أو شاعر الأقصى وقبة الصخرة، وأن يقول عن نفسه ما يشاء دون ان يستخدم مقالتي، ودون أن يصفني بأني استكثر عليه نعمة لقب شاعر القدس، وبأني معترض على لقبه ومغتاظ منه؛ فهذا خروج عن النص لا مسوغ له، مع التأكيد على حرية القول والرأي.

ثم إن القول بأن لقبه شاعر القدس كان يمكن أن يغيظ العدو الصهيوني فكلام بائس، ومثير للسخرية، وليس صحيحًا؛ لأن ما يغيظ العدو ليس الشعر بل الفعل، وهذا ما يؤكده شهيد معركة الشجرة عبدالرحيم محمود في قوله:

سَأَحمِلُ روحي عَلى راحَتي وَأَلقي بِها في مَهاوي الرَّدى

فَإِمّا حَياةٌ تَسُرُّ الصَديقَ وَإِمّا مَماتٌ يَغيظُ العِدى

واستنادًا إلى هذا الفهم فإن البيتين اللتين وردا في رد الشاعر وتوضيحه لم يبلغا حد التميز الشعري. فأين منهما قول الشاعر المنضوي تحت ظاهرة “شاعر القدس” داود معلا الذي له مجموعات شعرية منها: “حديث الريح”، و”الطريق إلى القدس، و”جرح مسافر فوق الريح”، فشتان بين من يتغنى بحب القدس وعدم نسيانها، وبين شاعر يريد أن يموت شهيدًا على ثرى القدس التي ما زال جرحها ينزف. يقول معلا رحمه الله:

يا قدسُ ضُمِّيني إليكِ ففي يدي جُرحٌ قديمٌ لا يزالُ جديدا

يا قُدسُ ضُميني فإني خائفٌ ألاّ أكونَ على ثَراكِ شهيدا

في النهاية، ليس لي إلا تكرار فكرتي بأن ظاهرة الألقاب الأدبية والشعرية، مثل أمير الشعراء، وشاعر القطرين، وشاعر النيل، ولقب شاعر القدس أو الأقصى كلها ألقاب لا تستقيم والمنطق، والفهم السليم لطبيعة الشعر والأدب والفن، فأي منها لا ينتهي في أي مرحلة زمنية، أو عند أي أديب أو شاعر أو فنان بعينه، وبالنسبة إلى القدس ستظل ملهمة الشعر والأدب والفن في مختلف العصور والأزمان