كتب : د. محمد عبد الله القواسمة
القدس هي المدينة التي حظيت، وما زالت تحظى باهتمام الشعراء، حتى في البلاد غير العربية منذ الحروب الصليبية حتى الآن. ويعود هذا الاهتمام إلى أن القدس مدينة مقدسة وعريقة، وهي عاصمة فلسطين، ولها مكانتها الدينية والتاريخية؛ فهي موطن الأديان السماوية الثلاث، فيها المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة، وإليها أسري الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومنها عرج إلى السماء. وعلى أرضها خاصة وعلى أرض فلسطين عامة تصارع الغزاة من إغريق ورومان وفرس وفرنجة وأتراك، ثم جاء الاستعمار البريطاني، وأخيرًا الصهيوني. وهي الآن لب الصراع بين العرب والصهاينة.
اهتم الشعراء العرب بالقدس اهتمامًا كبيرًا بعد قيام الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين عام 1948م، وبعد ما يسمى حرب النكسة عام 1967م التي احتلت فيها إسرائيل ما تبقى من فلسطين التاريخية، وهي الضفة الغربية وقطاع غزة فضلًا عن أجزاء من سوريا ومصر. وبرز كثير من الشعراء من البلاد العربية يتغنون بالقدس ونضالات أهلها، وصمودهم على أرضها، وحمايتهم مقدساتها، وبعضهم حزن لمصابها وعاب من كان سببًا في نكبتها، ولا يكاد يوجد شاعر عربي لم يتناول القدس في قصيدة أو أكثر.
من اللافت أن من بين الشعراء المحدثين الذين ذكروا القدس، وتغنوا بمكانتها ومقاومتها المحتل الإسرائيلي مَن حمل لقب شاعر القدس، أطلقه على نفسه، أو أن بعض النقاد أطلقوه عليه. ورأينا بعض الشعراء من حمل اللقب، وراح يذكره إلى جانب اسمه.
لا شك أن الألقاب الأدبية والشعرية ليست بدعة؛ إذ عُرفت لدى أدباء وشعراء كثر، وأشهر هذه الألقاب في عالم الشعر العربي الحديث لقب امير الشعراء الذي منحه الأدباء العرب عام 1927 لأحمد شوقي، ولقب شاعر النيل الذي أطلقه شوقي نفسه على حافظ إبراهيم، ولقب شاعر القطرين لخليل مطران. وفي عالم الأدب لقب طه حسين عميد الأدب العربي، وفي مجال الفن لقب سيد درويش فنان الشعب.. إلخ.
يأتي لقب شاعر القدس للدلالة على أن صاحبه قد جعل شعره أو معظمه للقدس؛ مدفوعا بمحبته لهذه المدينة من ناحية ورغبته في أن يُقبل الناس على شعره، الناس الذين يقفون مع تلك المدينة المقدسة، وقضيتها العادلة، وأهلها المرابطين على حماية مقدساتها.
لا ننكر فائدة هذا اللقب بالتعريف بالشاعر واهتماماته وقيمته، لكنه في الوقت نفسه لا يجعل منه شاعرا متميزًا عن غيره من الشعراء، كما أنه وما يشابهه من الألقاب يتنافى مع الفهم السليم لطبيعة الشعر والأدب، وحقائق الحياة؛ فالشعر، على سبيل المثال، لم يتوقف عند شوقي ليكون أميرًا له إلى الأبد، وكذلك الشعر الذي يحمل هم مصر والسودان لم يتوقف عند حافظ إبراهيم، وكذلك القدس لن يتوقف الشعر في الترنم باسمها، والتغني بماضيها وأمجادها وأهلها عند شاعر بعينه.
من الملاحظ على الذين حملوا لقب شاعر القدس أن بعضهم لم تكن القدس وحدها موضوع شعره، بل تناول مواضيع أخرى بعيدًا عن القدس وقضيتها. ثم إن كثيرًا من قصائد هؤلاء لم تكن (مع استثناءات قليلة) متميزة في صورها ولغتها ومعانيها، أو متفوقة على القصائد التي قالها غيرهم ممن لم يحملوا لقب شاعر القدس مثل: قصيدة» القدس عروس عروبتكم» لمظفر النواب، و»القدس» لنزار قباني، و»في القدس» لمحمود درويش، و»قدس الأرض» لسميح القاسم، و»كتف القدس» ليوسف عبدالعزيز، و»ماذا تبقى من بلاد الأنبياء» لفاروق جويدة من ديوانه الذي عنوانه «قصائد في رحاب القدس».
في النهاية فإن موضوع القدس من أهم المواضيع التي تلهم الشعراء بأرق الشعر وأصدقه في التعبير عن الظلم الذي لحق بهذه المدينة، وسيظل الشعراء يتسابقون في قول الشعر عنها، وسيظهر كثيرون ممن يلقبون أنفسهم أو يلقبهم غيرهم شعراء القدس. وهي ألقاب (كما أرى) ليست من الأهمية في شيء، إنما المهم ما يقوله أصحابها من شعر يضيء الطريق إلى تحقيق الحرية والخلاص لمدينة القدس، زهرة المدائن، وأولى القبلتين، وأرض الإسراء والمعراج.