بقلم : عوني الرجوب
باحث وكاتب سياسي
في عالم السياسة، ليس كل المواجهات تُحسم بالصوت المرتفع أو التصريحات النارية. بل على العكس، هناك قادة يعرفون كيف يستخدمون لغة الدبلوماسية لتوصيل رسائلهم دون إثارة العواصف، محققين أهدافهم بأسلوب أكثر تأثيرًا من الضجيج الإعلامي أو التهديدات المباشرة. هذا ما فعله جلالة الملك عندما التقى بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
اللقاء الذي انتظره الجميع
عندما زار جلالة الملك الولايات المتحدة للقاء ترامب، كان البعض يتوقع منه أن يتحدث بلغة المواجهة العلنية، أو أن يطلق تصريحات قوية تهاجم السياسات الأمريكية في المنطقة. لكن السياسة الدولية ليست ساحة مشاجرات، بل هي فن إدارة المصالح وتحقيق المكاسب دون خسائر.
جلالة الملك لم يكن في وضع يسمح له بإلقاء خطب نارية أو إطلاق تهديدات لا طائل منها. بل ذهب إلى واشنطن ليحمل رسائل واضحة، تتعلق بموقف الأردن الراسخ من قضايا المنطقة، وعلى رأسها رفض تهجير الفلسطينيين، سواء إلى الأردن أو أي دولة أخرى.
رسائل سياسية واضحة بلغة هادئة
خلال اللقاء، أوصل جلالة الملك موقفه الحازم بطريقة دبلوماسية راقية. لم ينجر إلى معارك كلامية مع ترامب، ولم يُظهر أي انفعال يمكن أن يُستغل ضده. بل تحدث بلغة الهدوء والثقة، مؤكدًا أن تهجير الفلسطينيين ليس خيارًا مطروحًا، لا إلى الأردن ولا إلى مصر ولا إلى أي مكان آخر.
كما شدد على أن أهل غزة باقون في ديارهم، سواء تم تقديم المساعدات الإنسانية لهم أم لا. هذه كانت رسالة ضمنية ترفض أي محاولات لفرض حلول مؤقتة قد تتحول لاحقًا إلى واقع دائم.
التعامل الذكي مع الاستفزازات
في بعض الأحيان، يُطرح على القادة أسئلة محرجة أو تحمل في طياتها نوايا خفية لدفعهم إلى الإدلاء بتصريحات غير محسوبة. لكن جلالة الملك، بحنكته السياسية، كان يتفادى الإجابة المباشرة عن بعض الأسئلة الحساسة، مفضلاً الردود الدبلوماسية الذكية.
عندما سئل عن فكرة تهجير الفلسطينيين إلى الأردن، لم يقل ببساطة “لا”، لأن قول “لا” بشكل قاطع قد يكون له تداعيات دبلوماسية. بل أجاب بأن “الاتفاق على مثل هذه الأمور صعب للغاية”، وهو تصريح يبدو محايدًا، لكنه في الحقيقة يغلق الباب تمامًا أمام أي محاولات لطرح هذه الفكرة.
كيف أوقع الملك ترامب في مأزق؟
الهدوء الذي تحلى به جلالة الملك خلال اللقاء كان كافيًا لإجبار ترامب على التراجع، حتى لو كان ذلك بطريقة غير مباشرة. فعندما يكون الخصم معروفًا بعنجهيته وغطرسته، فإن مواجهته بنفس الأسلوب قد تكون عديمة الجدوى. لذلك، كان من الأفضل لجلالة الملك أن يستخدم طريقته الخاصة، وهي استراتيجية الصبر والردود المحكمة التي تجبر الطرف الآخر على ضبط نفسه.
من الواضح أن ترامب كان يتوقع ردود فعل مختلفة، ربما تصريحات غاضبة أو مواقف انفعالية يمكن استغلالها لاحقًا. لكن جلالة الملك خيب ظنه، وحافظ على اتزانه، مما جعل ترامب في موقف دفاعي، وأجبره على التعامل مع الموقف بحذر.
الرسالة الإنسانية كأداة سياسية
واحدة من أبرز النقاط التي استخدمها جلالة الملك بذكاء هي تقديم الأردن لمساعدة إنسانية من خلال استضافة 2000 طفل فلسطيني للعلاج في المستشفيات الأردنية. هذه الخطوة لم تكن مجرد مبادرة خيرية، بل كانت رسالة سياسية تحمل في طياتها معنيين:
1.أن الأردن بلد إنساني، ويتعامل مع الفلسطينيين من منطلق الواجب الأخلاقي، وليس من منطلق القبول بتهجيرهم أو إعادة توطينهم.
2.أن قبول المرضى للعلاج لا يعني قبولهم كمهاجرين دائمين، وهذه إشارة واضحة إلى أن الأردن لن يكون جزءًا من أي مخطط يهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للمنطقة.
إجبار ترامب على الصمت
في نهاية اللقاء، عندما حاول ترامب دفع الملك إلى تقديم موقف أكثر وضوحًا حول خطط التهجير، رد جلالة الملك بطريقة دبلوماسية بارعة، قائلاً: “هناك خطة لدى أشقائنا في مصر، وهناك رد عربي سيأتيكم لاحقًا.”
بهذه الجملة، استطاع الملك أن يترك ترامب في حالة من الترقب والارتباك، لأنه لم يحصل على إجابة مباشرة، وفي الوقت نفسه، تم توجيه رسالة بأن هناك موقفًا عربيًا موحدًا يتم التحضير له.
: الملك يخرج منتصرًا :
بعد انتهاء اللقاء، خرج جلالة الملك بكل ثقة، مبتسمًا، واثقًا من نفسه، تاركًا وراءه ترامب في موقف ضعيف. حتى سمو ولي العهد، الأمير الحسين بن عبدالله، أظهر موقفًا يعكس هيبة الدولة الأردنية، حيث خرج من الاجتماع دون أن يصافح ترامب، في رسالة ضمنية تعكس استياء الأردن من بعض المواقف الأمريكية.
هذا اللقاء لم يكن مجرد اجتماع دبلوماسي، بل كان اختبارًا لقدرة القيادة الأردنية على التعامل مع القوى الكبرى دون أن تخسر كرامتها أو تتنازل عن مبادئها. لقد أثبت جلالة الملك أن القوة ليست في الصوت العالي أو التصريحات النارية، بل في القدرة على إدارة الحوار بحنكة، وإيصال الرسائل بطرق غير مباشرة، وإجبار الخصوم على احترام الموقف الأردني دون الحاجة إلى المواجهة العنيفة.
وهكذا، نجح جلالة الملك في أن يكون الطرف الأقوى في معادلة السياسة، مستخدمًا سلاح الدبلوماسية الهادئة، التي غالبًا ما تكون أكثر فاعلية من الضجيج السياسي والصراخ الإعلامي.