كتب الدكتور محمد الهواوشة :
تُعدّ السجون السورية منذ عقود رمزاً للقمع الوحشي، لكن ما عاشه المعتقلون خلال فترة حكم النظام البائد تجاوز حدود الخيال الإنساني. وبعد سقوط نظام الأسد، فُتحت أبواب السجون، وخرج المعتقلون ليكشفوا للعالم حقائق صادمة عن آلة التعذيب التي طالت الآلاف من الأبرياء.
معاناة المعتقلين: شهادات تتحدى الصمت
قبل تحريرهم، عاش المعتقلون في ظروف لا تُطاق داخل السجون السورية، حيث تعرضوا لأساليب تعذيب وحشية تُظهر انعدام الإنسانية. تبدأ معاناتهم منذ لحظة الاعتقال العشوائي، دون توجيه تهم أو محاكمات. وفي السجن، واجهوا صنوفا من التعذيب، المسبات القذرة والضرب المبرح والصعق بالكهرباء، إلى الحرمان من الطعام والماء، وصولاً إلى أساليب مروعة مثل “الشبح” و”بساط الريح” والإغتصاب.
وتروي شهادات الناجين بعد تحريرهم كيف أجبروا على مشاهدة تعذيب زملائهم، وكيف تحولت الزنازين إلى مقابر للأحياء. ومن أبرز القصص تلك التي تحكي عن فقدان الأمل يوما بعد يوم، حيث كان السجناء يعتبرون الموت أهون من البقاء تحت وطأة الألم المستمر.
فتح السجون: صرخة الحرية بعد الظلام
مع سقوط نظام الأسد، تم فتح السجون، لتنكشف حقائق الجرائم المروعة التي ارتكبها هذا النظام بحق المعتقلين. لحظة التحرير كانت بمثابة انبثاق شمس الحرية بعد ظلام طويل. خرج الآلاف من السجون، بعضهم فاقداً للذاكرة والمرضى النفسيين وبعضهم بأجساد هزيلة تحمل ندوب التعذيب، وآخرون بعقول مثقلة بالذكريات القاسية.
وعلى الرغم من فرحة التحرر، لم تخلُ المشاهد من الحزن، حيث لم يجد العديد من الأسرى أصدقاءهم الذين لقوا حتفهم تحت التعذيب أو اختفوا قسراً. يقول أحد الناجين: “خرجنا من السجن، لكننا تركنا أرواح رفاقنا خلفنا. نحن أحرار الآن، لكننا نحمل عبء رواية قصصهم.”
وفيات تحت التعذيب: أرقام تفوق الوصف
تمثل تسريبات “قيصر” دليلًا دامغاً على الجرائم البشعة التي ارتكبت داخل السجون السورية. تلك الصور التي وثقت الآلاف من الجثث المشوهة بآثار التعذيب، أثبتت للعالم حجم المأساة. وتشير التقارير إلى أن آلاف المعتقلين لقوا حتفهم بسبب التعذيب الممنهج، أو الإهمال الطبي، أو التصفية المباشرة.
الآثار النفسية والاجتماعية للتعذيب والتحرر
الحرية لا تعني نهاية المعاناة بالنسبة للناجين. فالآثار النفسية والجسدية للتعذيب تلاحقهم طوال حياتهم. يعاني العديد منهم من اضطرابات ما بعد الصدمة، وصعوبات في العودة إلى حياتهم الطبيعية. أما عائلاتهم، التي عاشت سنوات في قلق وخوف، فتحاول الآن التأقلم مع هذه المرحلة الجديدة، في ظل فقدان بعض أفرادها وضياع سنوات من حياتهم.
المجتمع الدولي وصمته المخزي
رغم التقارير المروعة التي بدأت تظهر منذ عام 2012 حول الجرائم البشعة التي ترتكب في السجون السورية، فإن المجتمع الدولي ظل صامتًا وغير مكترث. هذا التجاهل يثير تساؤلات عميقة حول ازدواجية المعايير التي تحكم النظام الدولي. يبدو أن أرواح الضحايا لم تكن أولوية، لأن القاتل والمقتول ليسوا من الغرب.
إن هذا الصمت المخزي كشف عن حقيقة مُرة: الاهتمام الدولي غالبًا ما يُملى بالمصالح السياسية والاقتصادية، وليس بالقيم الإنسانية التي يُفترض أن تكون عالمية. لقد كان من الممكن إنقاذ آلاف الأرواح لو تحرك المجتمع الدولي بشكل جاد، لكن الإهمال كان سيد الموقف.
الخطوات الضرورية بعد التحرير: دعم الناجين ومحاسبة الجناة
مع سقوط النظام وفتح السجون، لا تنتهي المأساة بل تبدأ مرحلة جديدة من العمل لإعادة تأهيل المجتمع ومداواة الجراح. ولضمان العدالة وبناء مستقبل أفضل لسوريا، يجب اتخاذ خطوات عاجلة تشمل:
1. تأهيل الناجين نفسياً واجتماعياً
يجب توفير برامج متخصصة لدعم السجناء نفسيا بعد سنوات من التعذيب، وإعادة دمجهم في المجتمع. ويتطلب ذلك تقديم جلسات علاج نفسي وتأهيل اجتماعي، خصوصاً الأطفال والنساء اللواتي تعرضن للاغتصاب والانتهاكات الجسدية.
2. تعويض المعتقلين الأبرياء
من الضروري تعويض جميع المعتقلين الذين سجنوا ظُلماً وزوراً لسنوات دون سبب. التعويضات المادية والمعنوية هي جزء من العدالة التي يجب تحقيقها، للتخفيف من آثار الأضرار النفسية والاقتصادية التي لحقت بهم.
3. محاسبة الجناة
يجب أن تشمل العدالة محاسبة كل الضباط والمسؤولين السابقين الذين تورطوا في التعذيب والانتهاكات. لا يمكن بناء دولة عادلة ومستقرة دون محاكمات عادلة للمتورطين في الجرائم، بغض النظر عن مناصبهم السابقة.
4. حماية حقوق النساء
النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب والتحرش داخل السجون يجب أن يحصلن على دعم نفسي خاص وتعويض مادي يساعدهن على تجاوز المحنة، بالإضافة إلى ضمان أمنهن وحمايتهن من أي وصمة اجتماعية أو انتقام.
5. إصلاح المنظومة الأمنية والقضائية
لضمان عدم تكرار هذه المآسي، يجب إصلاح المنظومة الأمنية والقضائية، وتحويل السجون إلى مؤسسات لإعادة التأهيل، تحت إشراف دولي يضمن احترام حقوق الإنسان.
دعوة للعدالة والمحاسبة
إن سقوط النظام وفتح السجون يمثلان بداية جديدة لسوريا، ولكن لا يمكن بناء مستقبل آمن دون محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة بحق المعتقلين. لتحقيق العدالة، يجب:
1. إنشاء محاكم محلية ودولية خاصة لمحاكمة مرتكبي جرائم التعذيب.
2. تقديم الدعم النفسي والمالي والاجتماعي للناجين وأُسر الضحايا.
3. توثيق الجرائم لمنع تكرارها في المستقبل وضمان عدم الإفلات من العقاب.
نهاية الظلام وبداية الأمل
فتح السجون بعد سقوط نظام الطاغية كان رمزًا لانتصار الحق على الباطل، لكنه خطوة أولى فقط في رحلة طويلة نحو العدالة. يجب أن تظل معاناة المعتقلين شاهدًا على ظلم النظام السابق، ودافعاً للمجتمع الدولي والسوريين على السواء لبناء وطن جديد يقوم على الحرية والكرامة الإنسانية.
إن أصوات الناجين من السجون ليست مجرد شهادات على الماضي، بل هي أمانة تُلزمنا بالسعي لتحقيق العدالة وضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة