كبارنا بركتنا: نحو خدمات تحفظ الكرامة وتلبي الاحتياجات

منذ ساعتين
كبارنا بركتنا: نحو خدمات تحفظ الكرامة وتلبي الاحتياجات

وطنا اليوم_نسرين قطامش

مدير عام مؤسسة الحسين للسرطان

نقرأ بين حين وآخر قصصًا عن كبار في السن يعانون من ظروف صحية واجتماعية لا تليق بموروثنا الاجتماعي في احترامهم وتقديرهم وحفظ كرامتهم. تأخذ هذه القصص اهتمامًا أكبر إذا كانت تتعلق بشخصية عامة، مما يعزز التعاطف ويزيد من رغبة الناس في تقديم الدعم والمساعدة. ورغم إيجابية ثقافة الفزعة في كثير من المواقف، لا يمكن أن نترك مصير كبارنا معتمدًا على ردود الفعل المبنية على منشور في وسائل التواصل الاجتماعي.
فهم حقًا “بركتنا”. وجود “الجدة” في البيت، على سبيل المثال، يملأ المكان بالحب والحنان، وقصصها وحكمتها تجعل منها كنزًا لا يُقدر بثمن. أما “الجد”، فهو العمود الفقري للأسرة، وجوده وهيبته يتركان أثرًا عميقًا في قلوبنا، فهو يضيف لعالمنا الدفء وللوطن البركة الحقيقية.

تنفيذًا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم بقوله “البركة مع أكابركم” وقوله عليه الصلاة والسلام “إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم”، علينا التفكير مليًا في تقديم خدمات صديقة لكبار السن في جميع مرافقنا العامة، وابتكار برامج ومبادرات مجتمعية تحتفي بهم وتستفيد من خبراتهم، فهم حلقة الوصل بين ماضينا ومستقبلنا. ومن ليس له ماضٍ، لا مستقبل له.

وفقًا لدراسة صادرة عن دائرة الإحصاءات العامة الأردنية، بلغت نسبة كبار السن في الأردن 6.3% من إجمالي السكان في عام 2022، ومن المتوقع أن ترتفع إلى 8.6% مع نهاية عام 2030، وإلى ما نسبته 15.8% مع نهاية عام 2050. على الرغم من الجهود المبذولة لتحسين البنية التحتية والخدمات العامة، لا يزال هناك نقص كبير في تلبية احتياجات كبار السن في التخطيط الحضري والسياسات الاجتماعية. تشير التقارير إلى أن حوالي 23% من كبار السن في الأردن يعانون من العزلة الاجتماعية، مما يؤدي إلى تفاقم مشكلاتهم الصحية وزيادة معدلات الاكتئاب بينهم، وهو ما يستدعي إعادة النظر في كيفية تقديم الخدمات وتضمين “كبارنا” بشكل شامل ومتكامل، مما يعزز من قدرتهم على العيش بكرامة ويضمن مشاركتهم الفعالة في المجتمع.

**برامج مجتمعية دامجة لبناء جسور تواصل بين الأجيال**
نحن بحاجة إلى تطوير برامج مجتمعية تفاعلية تستهدف كبار السن، من خلال المراكز الاجتماعية ومراكز الشباب المنتشرة في كل محافظات المملكة، وتقديم أنشطة ثقافية وترفيهية وتعليمية تهدف إلى تحسين جودة حياة كبار السن وتعزيز صحتهم النفسية والجسدية. تنظيم فعاليات تشجع على التفاعل بين الأجيال المختلفة يعزز الروابط الاجتماعية ويقوي التواصل. هذه الأنشطة تساعد أيضًا في الحفاظ على التراث الثقافي والقيمي من خلال تعزيز التبادل الثقافي بين الأجيال.

**استثمار الخبرة والحكمة: ثروة لا تُقدر بثمن**
يجب أن نعمل على استثمار خبرات وحكمة كبار السن، حيث تشكل هذه الخبرات مصدرًا غنيًا يمكن أن يسهم في تطوير المجتمع. يمكن تحقيق ذلك من خلال إشراكهم في برامج تطوعية أو استشارية أو مشاريع ريادة الأعمال الاجتماعية، مما يعزز التنمية الاجتماعية والاقتصادية. كما يمكن تقديم برامج تعليمية تستفيد من خبراتهم في مجالات متعددة، مما يساهم في تطوير مهارات الأجيال الشابة وتعزيز التعاون بين الأجيال.

**نظام التأمين الصحي: تحسين الوصول والشمولية**
يُعد نظام التأمين الصحي العام لكبار السن في الأردن خطوة إيجابية، من خلال شمول من هم فوق الـ 60 بمظلة التأمين الصحي الحكومي، لكنه يحتاج إلى تحسينات كبيرة لضمان وصول أفضل وشمولية أكبر. يجب أن تكون المرافق الصحية مجهزة بفريق عمل متخصص في طب الشيخوخة، مع تقديم رعاية شاملة تراعي الصحة الجسدية والنفسية والاجتماعية لكبار السن. من الضروري تحسين جودة الخدمات الصحية المتاحة من خلال تبسيط الإجراءات البيروقراطية وتوفير الكوادر الطبية المتخصصة.

ومن جهةٍ أخرى، لا بد من العمل بشكل جاد على تحسين الرعاية المنزلية لتقليل التنقلات غير الضرورية، مع توفير فرق مجتمعية متخصصة تقدم الرعاية في المنزل، بما في ذلك الإشراف على تناول الأدوية والعلاج الطبيعي. بالرغم من جهود وزارة الصحة في إنشاء مراكز صحية صديقة لكبار السن (21 مركزًا نهاريًا)، فإن تقديم الخدمة الصحية لهم في المنازل لا يزال مقتصرًا على القطاع الخاص، رغم الجهود المتمثلة في البرامج التدريبية المختلفة، كبرنامج رعاية المسنين الذي تنفذه مؤسسة التدريب المهني. يمكن الاستفادة من ثقافتنا الاجتماعية في تعزيز دور الأبناء كشركاء في تقديم الرعاية الصحية، من خلال تدريب المجتمع المحلي لتمكينه من تقديم الخدمات الأساسية لكبار السن، مما يقلل من الزيارات المتكررة وغير الضرورية للمستشفيات والمرافق الصحية.

**بنية تحتية تراعي احتياجات كبارنا**
تطوير بنية تحتية صديقة لكبار السن يتطلب تصميم الأماكن العامة ومرافق النقل بطريقة تسهل حركتهم وتضمن راحتهم. يجب إضافة منحدرات، توسيع الأبواب، وتوفير مقاعد وإرشادات بصرية وصوتية في الأماكن العامة. تحسين وسائل النقل العامة لتكون أكثر ملاءمة لكبار السن يعزز من قدرتهم على التنقل بارتياح. كما ينبغي تصميم الحدائق والممرات العامة لتكون صديقة لكبار السن، مع توفير مساحات للراحة وتسهيل الوصول إلى الخدمات العامة. يمكن الاستفادة من تجارب الدول المجاورة، مثل دولة الإمارات التي عملت على استراتيجية شاملة في هذا المجال، لتوفير مسارات مهيأة بشكل يتناسب مع احتياجات كبار السن في الأماكن العامة والمؤسسات الرسمية، وبأسعار رمزية أو مجانية أحيانًا.

**مسؤولية جماعية**
تحسين الخدمات المقدمة لكبار السن هو مسؤولية جماعية تتطلب تعاون الحكومة، والقطاع الخاص، ومقدمي الرعاية الصحية، والمجتمع المدني. يجب أن تكون هذه الخدمات ميسورة التكلفة وملائمة لاحتياجات كبار السن، مع الحفاظ على كرامتهم واحترام حقوقهم. يتطلب الأمر من جميع الأطراف المعنية أن تضع كرامة كبار السن في قلب الأجندة الاجتماعية والسياسية لضمان توفير حياة كريمة ومتكافئة لهذه الفئة.

إن تطوير خدمات صديقة لكبار السن ليس مجرد خطوة نحو تسهيل حياتهم اليومية، بل هو تأكيد على قيمتهم وضمان أنهم سيعيشون بقية حياتهم بكرامة واحترام، ويستمرون في المشاركة الفعالة في المجتمع.