وطنا اليوم:ربما بات المشردون في لندن ظاهرة تكشف وجهاً آخر لا يصدره “العالم الأول” عن إحدى أهم وأشهر عواصمه.
حتى يكاد لا يخلو شارع رئيسي أو فرعي في العاصمة البريطانية لندن من وجود أحد الأشخاص النائمين في الشارع بلا مأوى، أو الذي كان نائماً بالمنطقة قبل أن تزيله السلطات.
حتى إن بلدية وستمنستر، حيث يقع حكومة إنجلترا لمدة ألف عام تقريباً، وتعتبر إحدى أرقى مناطق مدينة لندن، هي أكثر منطقة تحتوي على أكبر عدد من الأشخاص الذين ينامون في الشوارع.
وقد سجل العام 2024 أعلى سنة في العقد الأخير في أعداد المشردين في شوارع لندن. لكن ما الذي يدفع الآلاف إلى المبيت في شوارع المدينة الباردة؟
رصدت السلطات البريطانية وجود ما يقرب من 12 ألف شخص ينامون في الشوارع، بزيادة قدرها 19% عن العام السابق، و58% أعلى في آخر 10 أعوام.
إذ رصد العاملون في الخدمات الاجتماعية 11993 شخصاً بالضبط ينامون في الشوارع بين أبريل/نيسان 2023 ومارس/آذار 2024
كان بينهم أكثر من 1100 شخص يفترشون الشوارع لأول مرة بسبب إخلائهم من محال إقاماتهم السابقة، وفقاً لصحيفة The Guardian البريطانية.
والأكثر صدمة أن واحد من كل عشرة أشخاص يعيشون في الشوارع كان تحت سن 25 عاماً، كما شملت الأرقام أطفالاً بإجمالي 13 طفلاً.
وبداية العام الحالي؛ وصلت معدلات النوم في الشوارع في لندن إلى أعلى مستوى لها في عقد، أو منذ بدأت هيئة المدينة في تسجيل الأرقام في العام 2014.
ربما ما يثير دهشة البعض أن معظم هؤلاء المشردين ليسوا من اللاجئين أو المهاجرين، بل من أبناء البلد أو من دول أوروبية.
إذ أن ما يقرب من نصف الأشخاص الذين ينامون في الشوارع من مواطنين بريطانيين، وما يقرب من الربع من دول أوروبية (24%)، أما نسبة تصل إلى الخمس فهي لأشخاص من دول إفريقية (15%)، ونسبة أقل من آسيا (10%).
المشردون يتعرضون للعنف والإساءة
يقوم آلاف من المشردين بالتنقل بين الحافلات أو الاستلقاء في مداخل الأماكن الصاخبة التي تعمل في الليل حتى يبقوا آمنين، وهذا يجعل نومهم في الليل مستحيلاً.
إذ قال مات داوني، الرئيس التنفيذي لمؤسسة Crisis، أن 9 من كل 10 أشخاص ينامون في الشوارع يتعرضون للعنف أو الإساءة، وقد تم إلقاء الطوب أو الزجاجات عليهم، أو حتى يتم التبول عليهم، حسب تقرير نشر مطلع العام 2024 في صحيفة The Guardian البريطانية.
الأهم؛ لماذا يزداد عدد المشردين في شوارع لندن؟
انتشار ظاهرة التشرد في عاصمة المملكة المتحدة وزيادة أعداد الأشخاص الذين لا يجدون المأوى يعود لعدة أسباب؛ أبرزها:
1- انخفاض بناء المساكن المدوعة
هناك نقص حاد في المنازل الاجتماعية التي تؤجرها الحكومة بأسعار أقل، وذلك بسبب فشل الحكومات المتعاقبة في بناء عدد كافٍ منها، ما يترك ملايين الأشخاص دون منازل آمنة ودائمة وبأسعار إيجار معقولة.
وقد سجل بناء المنازل الجديدة للإيجار الاجتماعي المدعوم من هيئة الإسكان في إنجلترا أو سلطة لندن الكبرى نقصاً واضحاً، وهو أقل عدد منذ العام 2016، كما أشارت صحيفة The Guardian البريطانية في تقرير نشر في 27 يونيو/حزيران 2024.
إذ قال آندي هولم، الرئيس التنفيذي لمجموعة Hyde Group، وهي هيئة إسكان اجتماعي: “في وقت لدينا أعداد قياسية من الأشخاص الذين ينامون في الشوارع في لندن وأعداد قياسية من الأطفال المشردين الذين يعيشون في مساكن مؤقتة، من المقلق جداً رؤية انخفاض بناء المساكن الاجتماعية بشكل كبير عاماً بعد عام”.
فيما حذر من عواقب أشد وطأة على المدى البعيد، إذ أضاف: “سيؤدي هذا فقط إلى زيادة عدد الأشخاص الذين ينامون في الشوارع ويصبحون مشردين في الأشهر والسنوات القادمة حيث ليس لدينا ما يكفي من الإسكان الميسر لتلبية الطلب العام”.
بينما قالت إيما حداد، الرئيس التنفيذي لمؤسسة St Mungo، وهي جمعية خيرية تساعد الذين ينامون في الشوارع في لندن، إن: “النقص في السكن الميسر والمناسب يترك الكثير من الناس عرضة للخطر”.
2- قوانين مكنت أصحاب المنازل من الإخلاء التعسفي
الصلاحية المتوفرة لأصحاب المساكن في طرد المستأجرين من منازلهم دون سبب أحد الأسباب الرئيسية للتشرد، بالإضافة إلى عقود الإيجار القصيرة التي تتيح أيضاً إخلاء المستأجرين.
وقد ألقت العديد من منظمات المجتمع المدني بالمسؤولية في هذه المشكلة على عاتق حكومة المحافظين التي حكمت البلاد لـ 14 عاماً، قبل أن يزيحها حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024.
إذ فشلت حكومة المحافظين في حظر عمليات الإخلاء دون سبب حتى رحيلها، رغم وعدها بذلك في العام 2019.
وكان حوالي خمس الأشخاص الذين ينامون في الشوارع يعيشون في مساكن تابعة للقطاع الخاص المؤجر سابقاً، وليست مساكن حكومية مدعمة.
وقد انتهى المطاف بـ 138 شخصاً في الشوارع بسبب الإخلاء غير القانوني من قبل مالكيهم في عام واحد (2023-24).
حتى أن صادق خان، عمدة لندن (من حزب العمال) الذي أُعيد انتخابه لولاية ثالثة، ألقى باللوم على حزب المحافظين، وأشار إلى “فشل الحكومة في حظر الإخلاءات دون سبب”، معتبراً أنه أمر مخجل لجميع المسؤولين، وبخاصة “المحافظين”.
3- إعانة السكن غير كافية
أرجعت مؤسسة Shelter England التي تقدم دعماً للمشردين في إنجلترا أحد الأسباب الرئيسية للتشرد إلى عدم القدرة على تحمل تكاليف السكن.
وأشارت إلى أن واحد من كل ثلاثة مستأجرين في القطاع الخاص يعتمدون على الائتمان الشامل أو إعانة السكن للمساعدة في دفع الإيجار.
ولكن التخفيضات الفعلية في قيمة إعانة السكن تركت الناس يكافحون لتحمل تكاليف منازل مستأجرة مناسبة.
4- ارتفاع الإيجارات
مؤسسة Crisis الخيرية البريطانية أشارت إلى أسباب أخرى تتعلق بارتفاع الإيجارات مع نقص المساكن المتوفرة.
إذ قال الرئيس التنفيذي لمؤسسة Crisis، مات داوني: “نحن الآن في عاصفة كاملة: ارتفاع الإيجارات إلى عنان السماء، نقص شديد في فرص الإسكان المدعومة، وارتفاع تكاليف المعيشة يدفع المزيد من الناس إلى الشوارع”.
5- التمييز وعدم المساواة
أشارت مؤسسة Shelter England إلى وجود تمييز وعدم مساواة أيضاً تسبب في تفاقم المشكلة، وذلك لتعرض بعض الأشخاص للتمييز بسبب العرق أو الجنس أو العنف الأسري أو لخروجهم من السجن أو نظم الرعاية.
مشيرة إلى أن التشرد أيضاً مصطلح يجب أن ينطبق على الأشخاص الذين يتنقلون بين أماكن الإقامة المؤقتة مثل النزل والفنادق الرخيصة، أو التنقل بين منازل الأصدقاء، رغم أن الأرقام الرسمية لا توفر معلومات دقيقة عن هذه الفئة.
قال متحدث باسم وزارة التسوية والإسكان والمجتمعات مطلع العام 2024 أنهم منحوا أحياء لندن أكثر من 191 مليون جنيه إسترليني (246 مليون دولار أمريكي) لمكافحة التشرد والنوم في الشوارع، ورغم ذلك لم تحل المشكلة، بل تتفاقم كل عام عن الذي سبقه.
فيما أشارت المجالس في لندن إلى إنفاقها 90 مليون جنيه إسترليني (116 مليون دولار أمريكي) شهرياً لتوفير مراكز إقامة مؤقتة للمشردين، بزيادة 40% عن العام الماضي، حسب الأرقام التي نشرتها هيئة الإذاعة البريطانية BBC في فبراير/شباط 2024.
فيما حذرت المجالس من أن المزيد من الأحياء قد تعلن الإفلاس الفعلي دون المزيد من الدعم الحكومي، مشيرة إلى إقامة نحو 175 ألف شخص في العاصمة بأماكن إقامة مؤقتة، وهو ما يعادل واحد من كل 50 شخصاً يسكن المدينة.
لكن تكمن المشكلة الأساسية في هذه المراكز في كونها مؤقتة، ولا تحل المشكلة، لكنها توفر سكناً مؤقتاً لـ 28 يوماً للشخص حتى يجد سكناً آخراً.