(لحظات دافئة)

7 مايو 2024
(لحظات دافئة)

 

وطنا اليوم_بقلم الدكتور نايل حسن العجارمة _الذي كنتٌ أجلس فيه وحيداً ، هارباً من كل ما يتردد في نفسي من تناقضات وألم ، رأيتها وقد جلست ورفيقتها على مقعدين متقابلين، يكملان حديثاً يبدو انه قد بدأ منذ وقت. 

لم يكن يعنيني الأمر كثيراً في البداية، بالرغم من قلة روّاد المكان وعدم إزدحامه في هذا الوقت الخريفيّ المبكّر، الا انني وجدتني وبلا سابق إنذار أنحرف بمقعدي قليلاً الى جهة اليسار حيث يصبح استراق النظر اليها أكثر سهولة، كنت استطيع ان ألحظَ الأفق البعيد عبر النافذة العريضة حيث تجلس، هناك سحبٌ تتراكم ورياح تشتدّ ، والسماءٌ المتلبّدة بالغيوم تنبئُ بعاصفة، والسيارات تسير متباطئة في اتجاهين، يحجب هذا المشهد الانفعالي خصلات شعر غائرة بالجمال، الا ان المكان هنا يبدو أكثر دفئاً، رأيتها تقف منتصبةً بقوامها الرشيق لتخلع معطفها الأرجواني وتعلّقه على حافة المقعد الخشبي ثم تجلس ثانيةً، لا ادري لماذا أحسست بنفحةٍ من الارتياح حينما تيقّنتُ انها ستمكث أكثر مما تحتاجه من وقت لمجرد شرب فنجان قهوة.

اقترب النادل الى الطاولة حيث تجلسان، رأيتُ صديقتها تشير بإصبعها الى مادة مكتوبة على قائمة الطعام، وتأخذ وقتاً طويلاً في الشرح، ربما أرادت كوبتشينو بحلاوة الكراميل مع مزيج حبوب الأرابيكا مع الرغوة، ولذلك أطالت التوضيح، أما هي فوجّهت كلمة واحدة الى النادل ولاذت بالصمت، أحسبها قالت: قهوة وسط .

للمرة الأولى تلتفت فتراني، اقلّ من بضع أجزاء من الثانية حينما طافت بنظرها في أرجاء المكان ليقع بصرها عليّ، ثم تشيح بوجهها لتعود الى حالة الارتهان لصديقتها كثيرة الكلام، غير ان الحال لم يعد كسابق عهده، لعلها اكتشفت ان هناك من يرقبها خلسةً، لكنني أدركتُ بما تبقى لديّ من حواس أن شيئاً ما قد تسلل الى داخلها للتوّ، وأحدث في وجدانها إرهاصات لعاصفةٍ قد تجد طريقاً للثوران.

جاء النادل يحمل أشياء كثيرة، وضع فنجان قهوة أمامها، ثم استدار ليضع لرفيقتها كأساً كبيراً من الشاي، ثم شطيرة وبعض لفافات السكّر وأصابع الكاتشاب، وفي خضمّ كل ذلك رأيتها تسرق لحظة من هذا المشهد الرتيب وتنظر اليّ بقصد، أدركتُ حينئذٍ انني اصبحتُ موضوع حديثها الذاتيّ.. وأيقنتُ أنه لا يمكن ان ترى انساناً بكل تفاصيله وكيانه الا إذا التقت عيناكما.

ومع لغة العيون اكتشفتُ كيف انها قد تحوّلتْ بسرعة الى حالة من الحماس والنشوة والانطلاق، فصارت تبتسم كثيراً، وأحياناً تضحك بتهذيب وخجل، ثم تمنحني كسرةً من هذه الضحكة الملائكية، وكأن لسان حالها يقول: انني ما ابتسمت الا لك ايها الشقيّ.

يا للعجب… كيف يتحوّل الانسان بفعل نظرةِ اهتمام واحدة الى كائنٍ من نوعٍ آخر.. كيف يصبح للمكان قيمة عظيمةً حينما يحتوي بين جنبيه روحاً جميلةً، هذا هو الذي يخلق لديكَ فارقاً كبيراً في لحظةٍ واحدة، ثم يترك فيك أثراً وكأنه رمزٌ يُنقش على حجر.

كم هي فائقة الحسن، نادرة الجمال، بهيّة الطلعة، تتجلى فيها لغة النور وتعبير السماء، يشرق وجهها كالشمس، انها شيءٌ كالنسيم لا يتسنى لك ان تمسكه بيديك.

لكنها في خِضمّ كل هذه المفارقات… رأيتها تُخرج من حقيبتها قلماً وتكتب شيئاً ما على حافة الطاولة.. ثم تحمل جمالها وأناقتها ومعطفها وحقيبتها ودفاترها، ودفء المكان، وبعض الذكريات، و جزءاً من هذا القلب وتغادر.