بقلم: غازي أبو نحل
الرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية
رفعت اللجنة الإقتصادية لإفريقيا، التابعة للأمم المتحدة، الصوت عالياً، مناشدة تقديم مساعدة فورية للدول النامية الأشد فقراً، في ضوء اختناقاتها المالية الناجمة عن جائحة كوفيد_19. الموضوع يتعلق بطلب تمديد أمد مبادرة تعليق سداد خدمة ديونها حتى نهاية العام 2022، معتبرةً أن مقاومة البلدان الفقيرة والنامية ستنهار، إذا ظل صانعو السياسة المالية العالمية غير مبالين أو مترددين في إتخاذ قرارات بهذا الشأن. وكانت مجموعة العشرين قد وافقت على تمديد تجميد مدفوعات الديون الثنائية الرسمية في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إستناداً إلى مبادرة تعليق خدمة الدين، إلى النصف الأول من العام الحالي.
وزراء مالية مجموعة العشرين الذين اجتمعوا منتصف تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أعلنوا سماعهم صوت اللجنة وإنكبّوا يدرسون سُبل إتخاذ تدابير من شأنها تخفيف عبء الديون عن بلدان الجنوب. لكن النتيجة جاءت مخيَّبةً للآمال، حيث اكتفوا، نتيجة مشاوراتهم، بإطلاق “مبادرة تعليق خدمة الدين”، التي كانت مجموعة العشرين و”نادي باريس” قد أطلقاها في شهر نيسان/إبريل 2020، وتجاهلوا المطالب الأساسية لدول ترزح تحت أعباءٍ تهدّد بإنهيار انظمتها المالية مع كل التداعيات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والحياتية والمعيشية.
“مبادرة تعليق خدمة الدين” من شأنها إراحة عملية التدفق المالي الداخلي للموازنات العامة للدول النامية، بحيث تستفيد من ذلك لجهة تمويل إنفاقها الجاري والإستثماري، لكنها لن تكون كافية لمواجهة حال الطوارئ التي فرضتها على الدول النامية، جائحة أنهكت الاقتصادات وأثقلت القطاعات الخاصة وشلت الحركة وأَقعدت مئات آلاف الموظفين والعمال في منازلهم وزادت معدلات الفقر بنسبٍ لم تشهدها من قبل، على نحو ما أشرنا إليه في مقالات سابقة.
في موضوع “مبادرة تعليق خدمة الدين” لا بد من التوقف عند الآتي:
الحل الذي اقترحه الدائنون يتعلق بمد أَجَل خدمة الديون الثنائية الأطراف مدة قصيرة من الزمن، بعد إضافة المبالغ غير المدفوعة إلى المبلغ المستحق عند الإستحقاق الجديد، وهو يقتصر على 73 دولة نامية فقط، بما يشكل نصف عدد البلدان النامية، ويستثني البلدان المصنّفة في خانة العجز كالسودان والارجنتين وفنزويلا.
تتضمن إتفاقية إعادة جدولة سداد الدين نصًّا مفاده أَن إعادة الجدولة مشروطة بالسداد المسبق للمتأخرات المستحقة على الدول النامية المدينة لصندوق النقد والبنك الدولي، كما بتصديق الدول المدينة على خطة تعديل هيكلية تحت رعاية صندوق النقد الدولي؛ مع الإشارة في هذا المجال إلى أن هذه الخطة لا تغطي سوى ديون 20 مليار دولار من أصل حوالي 275 مليار دولار أميركي، أي أقل من 1% من اجمالي الدين العام الخارجي للبلدان النامية.
لم تشارك الصين والدائنين من القطاع الخاص مثل البنوك وصناديق الإستثمار، بصورة مباشرة وفعالة في هذه المبادرة، انما حضروا الإجتماعات كمراقبين، إذا جاز التعبير، بعد تسلمهم دعوات من الجهات المنظمة، بحيث يخشى مراقبون أن تتخذ هذه الفئة من الدائنين اجراءات في حق الدول المتخلفة عن الدفع، أهمها وأخطرها، خفض تصنيفها السيادي، بما يؤثر سلباً على قدراتها وإمكاناتها في الاستدانة مجدداً، كما يؤدي إلى تراجع حاد في الإستثمار الأجنبي المباشر لديها.
بيانات معهد التمويل الدولي اظهرت إرتفاع الديون العالمية بأكثر من 17 مليار دولار خلال العام الماضي، لتبلغ 275 مليار دولار وسط ضغوط جائحة كوفيد_19، مدعومةً بالتراكم الحاد في الإقتراض الحكومي العالمي الإجمالي، إلى 105% العام الماضي من 90% العام 2019.
في الوقت الذي يمكن القول فيه إن خناق الديون الخارجية يشتد على الدول النامية والفقيرة، نرى أن أسواق الدول المتقدمة تفيض بالمال الرخيص المتاح والمتوافر بقوة، بسبب صفرية أسعار الفائدة، و”صائدي الفرص” من السوق من صناديق استثمارية وصناديق تحوّط وغيرها، يبحثون عن ملاذات آمنة لتوظيف الأموال وجني أرباح سريعة ومرتفعة، غير آبهين بإمكان خلق فقاعات تحوم فوق رأس الجميع، وقد تنفجر في أية لحظة. وتتعدد الأمثلة في هذا المجال، حيث نشير إلى إرتفاع سعر بتكوين مثلاً ليصل إلى أكثر من 40 ألف دولار أميركي، وإرتفاع القيمة السوقية لشركة “تيسلا ” للسيارات الكهربائية الأميركية في اواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي إلى أكثر من نصف تريليون دولار، وهي التي لم يتجاوز عمرها سبعة عشر عاماً … والأمثلة تطول.
قالت كريستالينا جيورجينا، مديرة صندوق النقد الدولي “أن أداء الإقتصاد العالمي خلال عامي 2020-2021 قد يكون أقل قتامة… ويرجع الفضل في ذلك بصفة خاصة إلى الإنتعاش الإقتصادي في الربع الثالث الذي جاء مفاجئاً “من حيث الحجم” محذرةً من اتساع الهوة بين الدول الغنية والفقيرة خلال فترة التعافي من جائحة كورونا.
الهوة بين الدول الغنية والفقيرة تتسع وتتعمق بالفعل خلال فترة التعافي وبعدها، في ظاهرة تترك ندوباً عميقة في جسد الإنسانية، من دون مبادرات حقيقية تخفّف من معاناة أكثر من ثلثي البشرية، انما مجرد ترتيبات وإتفاقات تهدف إلى معالجة القشور من دون التطرق إلى عمق الأزمات وجوهرها حيث الحلول تستوجب التضحية لمافيه خير استدامة الإقتصاد العالمي كوحدة واحدة.