كتب العين عبدالحكيم محمود الهندي
نعم، كان يعلم الأردن بأن المنطقة، وخصوصاً في فلسطين المحتلة، كانت ذاهبة الى عنف أكبر، فتلك جرائم لم تكن لتمر مرور الكرام طالما أن دولة الاحتلال تضرب عرض الحائط بكل المواثيق والاتفاقيات الدولية، حتى مع من مدوا لها يدهم يوما ما، فهل كان يمكن أن لا يغار الفلسطيني على مقدساته التي تنتهك حرماتها كل يوم لا سيما الأقصى الشريف، وهل يمكن أن يسكت الفلسطيني على التضييق عليه وخنقه عند كل خطوة يسيرها داخل ما هو مفترض أنها دولته التي عاد إليها بعد السلام الذي تزعم دولة الكيان احترامه والإيمان به؟!
كيف كان يعلم الأردن؟
الجواب بسيط، فلطالما حذر جلالة الملك عبدالله الثاني، وعبر كل المحافل الدولية والعربية، بأن الظلم إذا ما كان يمارس دون رادع ودون موقف، فإن الفلسطيني سينفجر في يوم ما، فتلك التحذيرات كانت من دافع قراءة عميقة للمشهد، ومن تمعّنٍ حكيم في المستقبل من خلال تحليل ما يجري على الأرض.
وحين تفجر الموقف، سارع الأردن لـ “لملمة” ما يمكن لملمته حتى لا تذهب المنطقة الى عنف أكبر، وحتى تتوقف آلة القتل الإسرائيلية بعد أن فقدت “عقلها” وتشتت ذهن أصحاب القرار الضاغطين على زنادها، وصبرت الدبلوماسية الأردنية أيما صبر، وأعطت الفرصة تلو الفرصة لدولة الاحتلال حتى تسمع الأصوات التي علت من خلال المؤسسات الأممية التي نجح الأردن في استصدار قرار إنساني منها، وإن كان غير ملزم على الصعيد السياسي، بوقف إراقة الدماء والسماح بدخول المساعدات الغذائية والدوائية إلى قطاع غزة، والذهاب إلى المفاوضات على أرضية القرارات الشرعية ذات الصلة التي تؤكد على حل الدولتين وعلى إحلال السلام.
ورغم كل هذا، فقد كان الاحتلال يقابل كل ذلك بأذنين من “طين”، فوصل السيل في عمان “الزبى”، وقرر الأردن، بعد كل ذلك الصلف والإجرام وعدم سماع صوت العقل، أن يتخذ خطوة سياسية كان لا بد منها علّها تكون بمثابة “الكف” ليصحو أصحاب القرار في الكيان من غفلتهم، فخسارة صوت “اعتدال” كما صوت عمان، هو خسارة كبيرة على صعيد المنطقة والقضية الفلسطينية، وعلى الصعيد الدولي، فجاء قرار سحب السفير الأردني من تل أبيب، وعدم الرغبة في عودة سفير الاحتلال الذي كان قد غادر أساسا بعد ليلة السابع من أكتوبر بقليل، بل وربطت عمان إعادة السفراء، بتوقف العنف، وفوراً، وفي هذا رسالة دبلوماسية تقول لكل العالم، وليس لدولة الاحتلال فقط، بأن السلام كله بات في خطر طالما أن دماء الأطفال ما زالت تنزف، وأصوات العالقين بين الحياة والموت، ما زالت تُسمع من تحت أنقاض المنازل التي هدمتها القنابل، وطالما أن أصوات الطائرات والقنابل ما تزال هي لغة المحتل.
وفي تأكيد على مدى أهمية خطوة الأردن، وصداها الذي يتردد في كل مكان، فقد جاءت المنامة بقرار مشابه، إذ أعلنت سحب سفيرها من عمان، وخروج سفير الاحتلال من عندها، وهذه الخطوة أيضاً جاءت بعيد جولة خليجية قام بها جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين الى عواصم الخليج العربي، وذلك في سياق النشاطات الدؤوبة التي قام بها جلالته منذ تفجر الأزمة بحثاً عن حل لوقف التقتيل والتنكيل اليومي بحق أبناء أهل غزة وفلسطين عامة.
ويمكن لنا أن نقرأ القرار الأردني في سحب سفيرنا وطرد السفير الاسرائيلي، من عدة أبعاد سياسية وعلى الشكل التالي:
أولا : يؤكد على طبيعة العلاقة الاردنية الفلسطينيه القائمة على وحدة الدم والمصير ، وهي عنوان عريض للعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الاردن وفلسطين .
ثانيا : يأتي في سياق ما تمثله الوصاية الهاشمية على المقدسات الاسلامية والمسيحية كحاضنة كبيرة وكحامية للمقدسات، وتمثل ردعاً كبيراً لدولة الكيان الصهيونى قبل أية خطوة عدائية يمكن أن تقدم عليها بحق هذه المقدسات.
ثالثا : جاء قطع العلاقات بعد مطالبات متكرره بوقف العدوان على الغزيين سبقها مطالبات اخرى على لسان جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين بوقف الاستيطان والدعوة لحل الدولتين وتطبيق قرارات الشرعية الدولية، لكن كل ذلك لم يجد آذاناً صاغية لدى الطرف الاخر.
رابعا : سجل الأردن هدفاً وموقفاً كبيراً بقرار قطع العلاقات مع الكيان الصهيونى، وعليه فإن دولاً أخرى ستلتحق به، ولعل قرار دولة البحرين بإعلانها عن قطع العلاقات مع الصهاينه يؤكد ذلك.
ختاماً، فإن ما لا شك فيه أنه كان للدبلوماسية الأردنية بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين، السبق في دعم الأشقاء في فلسطين المحتلة، ودون مواربة أو متاجرة في المواقف، وهذه ليست المره الأولى، ولن تكون الأخيرة في تقديم الدعم العملي للأشقاء الفلسطينيين