القيادات التنفيذية والقدرة على اتخاذ القرار

9 أكتوبر 2023
القيادات التنفيذية والقدرة على اتخاذ القرار

الأستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي

منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة والحديث يدور عن خطط استراتيجية ذات اهداف رائعة وبرامج مختلفة تهدف للنهوض بالاقتصاد وتشجيع الاستثمار وتجويد مخرجات التعليم والتشاركية مع القطاع الخاص وغيرها من المشاريع المختلفة التي لو قدر لها ان تحظى بقيادات من أصحاب الكفاءة تبنوا وضع خطط تنفيذية على ارض الواقع بوجود مؤشرات أداء قابلة للقياس الكمي السنوي، لما وصلنا الى ما وصلنا اليه، على الرغم من اصدار جلالة الملك للأوراق النقاشية السبعة والتي تعد خارطة طريق لكافة مؤسسات الدولة.

على الرغم من ذلك استمر الخطاب الحكومي المتعاقب لأكثر من عقد من الزمن بالحديث عن خطط وبرامج لم يلمس المواطن لها اثار إيجابية على الاقتصاد والبطالة وتكاليف الحياة وتجويد التعليم ورفع حصة الفرد من المياه لتحقيق الحد الأدنى من الامن الغذائي وتكاليف الطاقة وغيرها من الأمور، مما أدى لتفاقم ازمة الثقة بين المواطن والحكومات المتعاقبة.

هناك الكثير من الدراسات والندوات لتشخيص أسباب عدم تنفيذ الاستراتيجيات وخطط المشاريع المختلفة وتراجع الثقة بين المواطن والحكومات، والتي نسبها البعض الى الظروف الاقليمية ونقص في الموارد وضعف الادارات وغيرها من الأسباب. كلها أسباب مقبولة، الا ان من الأسباب الرئيسية لذلك، وجود عدد من القيادات والقائمين على تنفيذ الخطط والبرامج وعدم الرغبة في تغير سياسة إبقاء الامر على ما هو عليه (أصحاب نظرية التسكين) او من أصحاب الايادي المرتجفة (لا تعمل كي لا تخطي، وتكون تحت مجهر الأجهزة الرقابية) او من فضلوا اللجوء الى القرارات الشعبوية او المعطلين من أصحاب المصالح، والامثلة على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال، عندما تكون رجل اعمال ناجح لا يعني ان تصبح من راسمي السياسات العامة وادارة احد قطاعات الدولة بكافة تشعباتها، او ان تكون قيادي من الدرجة الثانية وتجد نفسك في المقدمة، وتصل الى قمة الطموح، حيث يلجأ البعض منهم الى الاسترخاء وتطبيق سياسة “لا داعي للتعب ومجابهة المصاعب واغضاب الاخرين”، كما انني اعرف بعض من لم يتمكنوا من إدارة فريق مكون من عدد محدود من الأشخاص لتنفيذ مشروع صغير وبقيمة مالية لا تتجاوز مئتي الف دينار ونتفاجأ في استلامة لإحدى المؤسسات، يدير الاف من البشر والملايين من الدنانير (ولكم ان تتخيلوا النتيجة؟)، كما ان احد الأشخاص الذين وصلوا الى موقع رئيس مؤسسة اكاديمية، وكان من المنادين في التغير وعندما سئل عن عدم اتخاذه أي اجراء أجاب لقد حصلت على الرتبة، وغيرهم الكثير ممن تدور حولهم شبهات الأمانة العلمية وصل بعضهم الى قيادة مؤسسات اكاديمية (ولكم ان تتصورا جودة البحث العلمي والترقيات؟)، او من قادوا مؤسسات اكاديمية وقطاع التعليم لأكثر من مره ومارسوا الضغوط لتمرير ترقيات بدون وجه حق ومنح رتب اكاديمية باثر رجعي وغيرها (والسؤال اذا كانوا قد مارسوا هذا العمل خلال قيادتهم للمؤسسات التي سبق وان قادوها، ساترك لكم استنباط النتيجة عن مثل هذه الممارسات اذا كانت تتم؟) وغيرهم الكثير لا يتسع المجال لسردها، ثم نبدأ بعدها بالتباكي على حال بعض المؤسسات.

ان مثل هذا الامر، أشار اليه جلالة الملك بكل وضوح في رسالته للشعب الأردني بعيد ميلاده الستين، واقتبس “… مما أدى الى تباطؤ مسيرتنا، التي عانت ايضاً من ضعف في تنفيذ البرامج والخطط، وتمترس بيروقراطي وانغلاق في وجه التغير، ….لا مكان بيننا لمسؤول يهاب اتخاذ القرار والتغير الإيجابي او يتحصن وراء اسوار البيروقراطية خوفاً من تحمل مسؤولية قراره، وواجبنا ان نوفر الحماية والدعم لكل مسؤول يتخذ القرارات الجريئة ويبادر ويجتهد …”.

ومن الأمثلة الواضحة للعيان ما يعاني منه قطاع التعليم العالي من تغير وتبدل في استراتيجيات القطاع التي يصعب حصرها خلال الخمسة عشر سنة الماضية، مروراً باستراتيجية الاستراتيجيات ووصولاً الى الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية. لقد كان واضحاً ان الخطط الاستراتيجية لم تعاني من العيوب، بل بعدم تطبيقها على ارض الواقع مع عدم وجود مؤشرات لقياس الأداء الكمي لمراحل تنفيذها ضمن مدد زمنية محددة، وانقلاب قيادات القطاع عليها، ومنهم من كان من مهندسي البعض منها.

انني وبكال ثقة، أؤكد ان وضوح الروية وتوفر الإرادة والتزام الفريق (على الأقل معظمهم) دون تردد او خوف لتحقيق اهداف سبق وان حددت بدقة مع وجود مؤشرات قياس كمية ومراجعة مستمرة، حتماً ستؤدي الى الوصول الى نتائج إيجابية. ومن الأمثلة على ذلك،سأتحدث عن تجربتي الشخصية، في حزيران من عام 2016 تشرفت بإرادة جلالة الملك لقيادة جامعة البلقاء التطبيقية، ومباشرة طلبت من الأستاذ الدكتور محمد عدنان البخيت، رئيس مجلس الأمناء آنذاك دعوة المجلس لعقد جلسة طارئة لتوثيق الوضع القائم في الجامعة آنذاك (موثق)، ومن محظر الاجتماع تبين وجود عدد من القضايا يمكن معالجتها بصفة الاستعجال (رغم المخاطرة في القرارات)، ومنها ما يحتاج الى فترات زمنية أطول، الامر الذي تطلب وضع استراتيجية هي أقرب لخطة تنفيذية وتم تحديد الأهداف ومؤشرات قياس الأداء الكمي لها ضمن مدد زمنية محددة، منطلقين بذلك من الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية والأوراق النقاشية لجلالة الملك وخاصة السادسة والسابعة منها.

بعد اعتماد الخطة من قبل مجلس الأمناء، تم عرضها امام حوالي 80 شخصية من قيادات محافظة البلقاء في لقاء تشاركي وتشاوري وكان تحت رعاية معالي المرحوم مروان الحمود وبحضور معالي المرحوم علي الفزاع، وأصحاب المعالي عبدالاله الخطيب، رجائي المعشر، عوني البشير، ماهر أبو السمن، مصطفى شنيكات، ومازن الساكت، وغيرهم، واعتذر منهم لعدم ذكر الأسماء، وكذلك اعيان ونواب المحافظة في ذلك الوقت، وبحضور رئيس مجلس الأمناء،  التزمنا وزملائي من فريق العمل بإخراج الجامعة من ازمتها المالية ومعالجة ملف التامين الصحي وهيكلة التعليم التقني والتطبيقي وتحسين البنية التحتية والتكنولوجية في الكليات المنتشرة في المحفظات وتجويد مخرجات التعلم والتعليم ونوعية البحث العلمي المنشور والترقيات الاكاديمية وإدخال الجامعة ضمن الالف الأولى على العالم والإصلاح الإداري والسير بمشروع الطاقة الشمسية لإخراجه الى حيز الوجود والتشبيك والتعاون الدولي للحصول على مختلف اشكال الدعم المادي والتكنولوجي (تم توثيق اللقاء بالفيديو للرجوع اليه لمتابعة مراحل الإنجاز والالتزام معهم وبشكل دوري). على الرغم من ان أحد الحضور، طلب ان لا نحلم نكون واقعيين (قد يكون من المستفيدين من بقاء الامر على ما هو عليه)، الا انني وفريقي حصلنا على الدعم المطلق من القيادات التي أكن لهم كل الاحترام والتقدير، وخاصة بعد مداخلة معالي ماهر أبو السمن قائلاً ان الرجل عرض عليكم خطته ولسان حاله يقول ارجو ان لا يتدخل أحد في التنفيذ وهذه المدد الزمنية وحاسبوني على ذلك.

بكل ثقة كنا وفريقي (البعض منهم ومع كل اسف لم يقدم أي مساهمة، فلم يستمر معنا، والبعض تحملناه، لأسباب عدة، الا ان الأغلبية منهم كانت لها مساهمات متفاوتة، لإنجاح المهمة) نستعرض نتائج الخطة التي كانت أهدافها تتحقق الواحدة تلو الأخرى، فهيكلة التامين الصحي خفضت التكاليف بما يقارب 3 مليون دينار خلال عام، وهيكلة التعليم التقني والتطبيقي زادت الإيرادات من ما يقارب 3 مليون دينار عام 2016 الى ما يقارب 20 مليون في عام 2020، ودخلت الجامعة في قائمة الالف على العالم خلال 3 سنوات وحلت في المرتبة الثانية بين الجامعات الأردنية (تم الاحتفال بحضور قيادات البلقاء، وتحت رعاية معالي المرحوم مروان الحمود في نهاية العام 2019) وتقدمت الى الفئة 601-800 في العام 2021، كما وتم التوقيع على تنفيذ مشروع الطاقة الشمسية في عام 2019 والتشبيك الدولي الذي أدى للحصول على دعم مالي يقارب 20 مليون دينار (من كوريا وإيطاليا لوحدهما) وغيرها من نقل التكنولوجيا والبرامج الدولية التقنية والتطبيقية، مما أدى الى احداث نقلة نوعية في البنى التحتية في كافة كليات الجامعة تقريباً، وخرجت الجامعة من ازمتها المالية بوفر مالي سنوي اعتباراً من العام 2017  وبفائض مالي اجمالي في  نهاية عام 2021 (عند عمل مقاصة مالية بين الذمم الدائنة والمدينة) وكلها موثقة بالفيديو او بالكتب الرسمية، وتوجت الهيكلة بإعداد المشروع الوطني للمسارات المهنية والتطور الوظيفي الذي عرض امام جلالة الملك في كلية العقبة بتاريخ 17/2/2020، وحصل على موافقة مبدئية من مجلس التعليم العالي في آب 2020، وترخيص اربع تخصصات منه في آب 2021. خلال تلك الفترة كنا نكافئ المجتهدين من الفريق وعلى النتائج ووفقاً لإحكام النظام.

في كل مسيرة عمل لا بد من وقوع أخطاء، الا اننا وفريقي كنا مطمئنين الى ان الجهات الرقابية وخاصة هيئة النزاهة ومكافحة الفساد بان لديها القدرة الكافية للتميز بين الأخطاء الناجمة عن العمل المزدحم وبين اعمال الفساد، وهذا كان واضحاً من منظومة الشفافية والنزاهة والتي كانت تعمم من قبل هيئة النزاهة ومكافحة الفساد على المؤسسات.

هذا أحد الأمثلة، وهناك الكثير من التجارب الناجحة التي اعرفها لمؤسسات وطنية تميزت قياداتها بالكفاءة وتحملت النقد وتأثير قوى الشد العكسي، وكذلك هناك مؤسسات كانت تعتبر قصص نجاح وتراجعت بسبب اداراتها المترددة في القرار والمتلعثمة في الطرح (لا مجال لذكرها)، والباحثة عن القرارات التي تحقق الشعبية لها، دون الاخذ بمبدأ إدارة المخاطر المستقبلية على المؤسسة، وهي إدارات غير قادرة على ابسط انواع المواجهة. ان ما يعزز موقف هكذا نوع من الإدارات، غياب المسألة عن أسباب تراجع المؤسسة وتردي أوضاعها المختلفة والسماح لهم بالاختباء وراء الأمور الثانوية وتمرير التبريرات باستخدام شماعة ما لذلك.

اننا الان في بداية المئوية الثانية للدولة الأردنية ولدينا ثلاث برامج وطنية (السياسية والاقتصادية والإصلاح الإداري)، الامر الذي يتطلب نشر مؤشرات اداء كمية وسنوية لها، والاعتماد على قيادات ذات خبرة تراكمية وتجربة عميقة وقادرة على اتخاذ القرار بالوقت المناسب وتحمل نتائج ذلك دون خوف او تردد، وقادرة على الاقناع والمواجهة الإعلامية امام الرأي العام، وخاصة إذا ما وجد التضارب في التصريحات بين المسؤولين فيما بينهم في مختلف المراحل السابقة منها او اللاحقة لكشف الحقائق، مما سنعكس ايجاباً على تعزيز الثقة بالمؤسسة والمسؤول، وتودي حتماً للوصول الى الأهداف الرئيسية.

كما يجب علينا السعي المستمر لتحقيق اهداف الديمقراطية كوسيلة رئيسية للتغلب على مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية والنهوض بالقطاعات المؤثرة في مستقبل الدولة وخاصة التعليم منها، عن طريق اتخاذ القرارات السليمة دون خوف من الأجهزة الرقابية وخاصة ان ديوان المحاسبة بداء بتطوير ادواته الرقابية التي تتماشى مع أفضل المعايير العالمية في الدول المتقدمة، وحسب المنشور من لقاء رئيس الديوان والعرض المقدم منه امام جلالة الملك يوم 26/9/2023 لدعم مسارات التحديث في الدولة الأردنية.