بقلم الأستاذ الدكتور إبراهيم الجراح
انتقل العالم في السنوات الماضية بسرعة غير مسبوقة نحو الابتكار التكنولوجي، فتمزقت أغلال العقبات وبدأنا ننظر إلى واقعنا بعيون مختلفة، وبنظره استشرافية للمستقبل؛ للبحث عن حلول للمشاكل المتراكمة التي لها تأثير كبير في حياتنا، وفي قلب هذا التطور الهائل، يتربع الذكاء الاصطناعي على قمة الأدوات التكنولوجية في جميع المجالات مثل الطب، والتعليم، والصناعة، والزراعة، وغيرها.
ولكن، هل سبق لنا أن تساءلنا عن دور الذكاء الاصطناعي في بعض المجالات غير الملموسة بالنسبة لنا، وهل لها تأثير كبير في حياتنا!
يعد ملف الفساد (Corruption) من أكثر المشاكل التي تعانيها الدول ولها تأثيرات سلبية في الاقتصاد والمجتمع بشكل عام، إذ يعد من الصعوبة علينا ان نكتشفه بالطرائق التقليدية، وهنا نتساءل: هل من الممكن ان يكون للذكاء الاصطناعي دور في المعركة الطويلة ضد الفساد؟ وهل سيكون للذكاء الاصطناعي دور إيجابي في التقليل من هذا السرطان المستشري في اقتصاد الدول؟
أرى ان الذكاء الاصطناعي (AI) سيكون في المستقبل القريب من أبرز الأدوات التي سيكون لها الأثر الكبير في مكافحة الفساد، وذلك بسبب قدرته على الكشف عن الأنماط المخفية في المجموعات الكبيرة من البيانات، التي ليس من الممكن للإنسان ادارتها وتتبعها، بحيث يشكل الذكاء الاصطناعي قوة ضاربة في الكشف على العناصر المهمة في البيانات، والمساعدة في تتبع وتحديد الأمور المشتبه بها، وبيان مواطن الاحتيال.
كثير من الدول اتجهت نحو استخدام الذكاء الاصطناعي في مكافحة الفساد، وهناك عدد من الدول لها تجارب رائده في هذا المجال مثل: استونيا وفرنسا والبرازيل وأوكرانيا وغيرها من الدول.
ومن اهم الجوانب التي تم التركيز عليها في السنوات الأخيرة في هذا المجال، وتم توظيف التكنولوجيا الحديثة فيها هو اكتشاف الاحتيال في المشتريات العامة والمناقصات، وعلى سبيل المثال أعدت منظمة الشفافية الدولية في أوكرانيا برنامجا خاصا مبنيا على التعلم الآلي يدعى Dozorro ، بحيث تم تدريبه على بيانات عملاقة لتحديد العطاءات والمناقصات ذات الخطر العالي من الفساد، واستطاع هذا النظام وبشكل كبير من زيادة كفاءة التحليل ومساعدة خبراء العطاءات في اتخاذ القرار، واثبت النظام قدرته على فحص كميات كبيرة من البيانات في مدة زمنية قصيرة، حيث اصبح الذكاء الاصطناعي المُمكن الأساسي لخبراء العطاءات في اكتشاف العطاءات و المشتريات غير القانونية أو المشكوك فيها، وكل هذا انعكس على مرتبة أوكرانيا في مؤشر مدركات الفساد خلال السنوات 2019 -2021.
من جانب اخر يعتبر التهرب الضريبي من الاشكال الأخرى للفساد والذي من الممكن ان يشكل الذكاء الاصطناعي دورا كبير في اكتشافه، حيث تعد فرنسا من الدول الرائدة في ذلك، إذ وظفت الذكاء الاصطناعي لكي تزيد من كفاءة تعقّب دافعي الضرائب فبنت نموذجا عملاقا تمت تغذيته بالبيانات التجارية والأُسَرية اللازمة إذ احتوت قاعدة البيانات الضخمة على أكثر من خمسة ملايين شركة خاضعة للضرائب في فرنسا، والذي أدى الى زيادة التحصيل الضريبي من كثير من الجهات التي لم تكن ملتزمة بالإقرارات الضريبة.
وفي المجال ذاته طورت البرازيل برمجية ذكية لكشف السلوك الفاسد بين الموظفين الحكوميين، وذلك من خلال تدريب البرمجية على مئات من المتغيرات وكميات كبيرة من البيانات، مما أدى الى تقليل نسب الرشوة وكشف التحايل في المعاملات الحكومية.
واستونيا التي تعد من الدول الرائدة في استخدام الذكاء الاصطناعي نفذت مجموعة من المشاريع لذلك، مثل مشروع كرات (Kratt)، للمراقبة الحكومية، ومشروع هانز (Hans)، لتسجيل محاضر الجلسات في المجلس البرلماني، حيث يقوم النظام بإنتاج تقارير آلية، وذلك لرفع كفاءة مستوى الشفافية في المجلس.
في النهاية، أقول: إن الذكاء الاصطناعي له دور مهم في مكافحة الفساد وسيكون من وجهة نظري المحرك الأساسي في المستقبل القريب للقضاء على هذه الافة، باستعمال الذكاء الاصطناعي في التحليل التنبؤي وتحليل البيانات الكبيرة لاكتشاف الأنماط المشبوهة والنشاطات التي قد تشير إلى وجود فساد، ومراقبة الصفقات المالية وتتبعها لكشف العمليات المشبوهة أو غير القانونية، وبناء انظمة للرصد الذكي للموظفين والتأكد من نزاهة سير العمل دون تدخلات خارجية وغيرها الكثير من الجوانب.