أ.د. خليل الرفوع
الجامعة القاسمية – الإمارات العربية المتحدة
في قرية بصيرا بمحافظة الطفيلة كانت الولادة والنشأة والمسيرة لشاعر طبع على الكلمة الصادقة واللحن الشجي والوجع الحزين والقلق الوجودي، محمد أحمد الشروش الشاعر المغني والمحامي المُخْلِص والنائب السابق في مجلس الأمة الأردني المؤرق بهموم الناس وأوجاعهم، بقي يحمل قصيدته على لسانه في الريح من غير ديوان جامع، يألف الكلمة وتألفه ويرسل قصائده أو ترسله في القلوب والغمام فتحفظ على ألسنة محبي الشعر تفوح برائحة زهر اللوز، ففي أشعاره لغة استعارية تنزاح بإيحاءات فنية وصور مدهشة، وفيها غنائية عفوية بعيدا عن التصنع والتكلف، وأحسب أن رهافة المشاعر وطبيعة التكوين الثقافي والاجتماعي وعمق التأمل هي مصابيح تشكل قصيدة الشروش. فهو لا يكتب الشعر عامدا قاصدا بل تنسج القصيدة مشاعَره كلماتٍ رقيقةً محكمة البناء والوزن والقافية والرِّقة والجمال.
قرأت أكثر شعره فكان شاعرا مطبوعا، فيه من الرثاء والقلق والتمرد ما يجعله يمور بحس إنساني راقٍ ومعانٍ تتوالد وتزهر؛ لذا فقد ألححت عليه من قبلُ أن تلملم قصائده من الصُّدور والأوراق المتناثرة لتطبع في ديوان منشور، ففيها تجربة فنية صادقة جديرة بالقراءة والتأمل والبحث، لكنه يسير على طريق الشعراء الفحول في العصور القديمة الذين لم يكتبوا أشعارهم ولم تدون إلا بعد قرون، وكم من دواوين منشورة لم تحرك ساكنا في بحور الشعر أو وجدان الأمة!.
وجعُ الحب المؤرق وشِيمة الوفاء والقلق الوجودي هي عناوين القصيدة ومضامينها في شعره، فيها يرثي أحبةً رحلوا وقناديلَ الوطن وأمكنة عصية على الفناء، ففي قصيدته يا قدس – كتبت عام 1986- يرثي أوجاع الأمة وانكسار مدنها كالقدس وبيروت وبغداد وعدن والخرطوم، فشعره يقتل صمته بعد أن مزقت الفتن أجساد تلك المدن فاستصرخ المجد أهلها، يخاطب القدس قائلا:
يا قدسُ ما سكنتْ إلاكِ غالية
بين الضلوع ولا أشركتُ في سكني
وفي قصيدته – قل يا حبيبُ – يستذكر قاماتٍ أردنية من زعماء وشعراء خُلِّدوا في ذاكرة الوطن، والتحفوا سيوف الموت وضياء النجوم وسطوة الفجر ودعوات الأردنيين الذين لم يسرجوا مصابيح قلوبهم إلا لهم، وهم: وصفي التل وحابس المجالي وهزاع المجالي ونمر بن عدوان وعرار وتيسير السبول وحبيب الزيودي، وفي القصيدة غناء يرتل وفاءً، وفي رثائه الشاعر الراحل حبيب الزيودي يصفه بالمغني الذي يطوف بمنازل الأردنيين – إشارة إلى ديوانيه: طواف المغني ومنازل أهلي – ليبلسمَ جروحهم بشعره الذي يصب على أوجاعهم قصائده الندية صبًّا، وحبيب الذي احترف الشعر في وادي عبقر ولم يكمل الخمسين من عمره كان بدرًا كاملا حين رحلت روحه لتسكن مطمئنة جوار أرواح أولئك الموغلين في تراب الأردن بردًا وسلاما وتضحية، يقول فيها:
سلِّمْ على قمم بالموت تلتحفُ
واقرأْ سلامي على القامات إذْ تقفُ
واسرجْ لوصفي على أنغام قافيةٍ
من شعر نمر وقد طافت به الغُرف
واغرس لحابسَ في الأردن سامقةً
من وحي وجدٍ به الأروح تأتلف
أبلغْ عرارًا بأن الزُّطَ ما ظلموا
وأن هَبْرك يا ابن العم يختلف
تيسيرُ جاركَ فاكشفْ سِرَّ غربتِه
فالروح للروح بالأسرار تعترف
طاف المغني على جرحٍ يؤرقه
منازل الأهل بالأهلين تزدلف
وكان شعركَ شلالًا به نزف
وكنت أنت بوادي الجنِّ تحترف
خلفت شعرًا بنصف العمر مكتملا
وبعضُ بعضكَ قبل البدر ينتصف
قل يا حبيب وقل عن سوْأَةٍ كُشِفت
وعن وجوه على السوءات تنكشف
هذا هو الشعر بصدقه وصوره وتشابكه فنيًّا مع صفاء النفس وطهارة المعنى، ويرثي الشيخ راشد بن محمد بن راشد آل مكتوم الذي خطفه الموت سنة 2015م دون معرفة به أو قرابة بأبيات تقطر عاطفة مكلومة بالفقد لفارس عربي جمع ثلاث سمات أصيلة: رياضة الفروسية وألق الشعر ومسؤولية ولاية عهد إمارة دبي، يقول مستذكرا من التراث العربي بكاءَ الشاعرة الخنساء أخيها صخر وشعرها أشجى وأصدق، وحزنَ المدن العربية: بغداد ودمشق وصنعاء التي ثكلت أبناءها مثلما فقدت دبي ابنها الشاعر الفارس الذي جمع النبل في ابتسامته والرشد في كل حرف من اسمه؛ فلكل حزن في المآتم دمعة ولكل حياة في الوجود فناء، مرارة الفقد تسري في صور القصيدة وإيقاعها وحروفها وشراينها، وأزعم أن البيت الأول من أجمل ما كتب في الشعر العربي المعاصر، يقول فيها:
مُــرٌّ غيابكَ والغيابُ بكاءُ
ولكلِ فـقدٍ موجــعٍ خنساءُ
هي أمتي يا ابن الكرام جراحها
من كل صخر في المدى أنواء
يا راشدًا من كل حرف راشدٌ
طوبى لروحك والحياةُ فناء
فاكتب لخيلك من رحيق حروفها
يا عمْرو إني والغياب سواء
وفي مقطوعة تقطر كمدًا صافيا يعتكف الشاعر في محراب الصبر، ويطوي أحزانه في صفحات الفقد المر، إنه فقد الحبيب محمد جمال الحجاج، وفي مناجاة فجائعية يتحول الشعر إلى موجات تتكسر على عتبات الروح فتجرح أغانيه وتحيلها إلى مآتم وجد تنزف ما تبقَّى من آلامه مطعونًا بالغياب ومكروبا بالغروب وحدَه، فلو كانت التضحية في فسحة الفداء محققةً لأعطى محمدًا ما تبقى وزاد من العمر، في ظلمة الغياب يبدو الشاعر يخوض في بحر الوجع مغترفًا منه كؤوس الفجيعة وأشجان الوفاء، يقول في مناجاة محمد ابن روحه الذي غاب قبل أوان الرحيل:
أدْريه جرحًا ونزفًا فوق ما وصفوا
فقد الأحبة والأقدار لا تقف
وكل حزن سرى في الروح أتعبَها
إلا رحيلك يا ابن الروح يختلف
آهٍ محمدُ مثقوبٌ به كبدي
صبري تناهى ودمعي ليس يعترف
لو أنها بُدِّلَتْ للعمر تضحية
أعطيك عمري وفوق العمر استلف
ولعل البيت الثالث يشفُّ عن صورة جديدة في الشعر؛ فقد تحول موت محمد إلى آلة صماء بالجمر تثقب كبده الحرَّى الحمراء الدامية فتفتتها، وكأنه ينادي: ليت الفراقَ والحب ما خُلِقَا.
وفي رثائه لصديقه الدكتور المهندس مروان مبارك الرفوع تنبسط الصداقة معانيَ مطروحة في الكلمات، فقد كانا صديقين في مدرسةٍ قروية واحدة وصفٍ واحد وحارةٍ واحدة، فالحزن نار تتلظى والرحيل غياب مر، والشاعر يدور في حُمَّى الفجيعة باحثا عن صديقه في دموعه التي تمزق قلبَه برؤوس الحِراب التي تشعل فيه نيرانا من الآهات تلتهبُ:
مروان يا أملا ترجّل باكرًا
حزني تمادى والدموع حِراب
وتنغيم القصيدة بإيقاع الحزن جعلها إنسانية الوجع، ومما زاد في تمكن القصيدة من الاستفزاز البكائي توالي الصور الفنية، فالزمن الذي رحل فيه مروان جريح والموت غياب، والحزن نار والرحيل عذاب، والقصائد ترثي غيابه، والشاعر يبكي شباب صديقه، والعمر يمضي مثقلا بالموت، والحياة سراب يترقرق بلا شيء، والشاعر يدور وحده في دائرة المأساة، والدموع شواهد تشظي الفؤاد، والدهر يجرح ويرمي سهامه لتصيب الروح؛ إنها صور فنية تتوالى كموجات عاصفة لتحطمَ كل شيء.
وبعد،
فمحمد الشروش شاعر يغترف من أوجاعه وأوجاع الناس رثاء عاطفيا منسوجا بصدق الكلمة وجودة الصورة وشجن الإيقاع فهو يكتب بمداد من الدمع الذي يتدفق شلالا من الأسى، فالقصيدة لديه تسبيحة صلاة وترتيلة نغم ورائحة سنبلة وغيمة سَحَر يتنفسها كالصبح إذا تجلى إشراقة مكتملة البهاء، ويهدهدها كالصَّبا ريَّانة الرِّواء، إنه الشعر حينما يسري كالغيم رخاء ويتكلم كالغيث سِقاء ويلقي بكل جماله في هدأة الروح وريب المنون وتعب الحياة، وفي شعر الشروش ثمة وحدة في الصور والقلق والرؤية بإيقاع صوفي حزين.