وطنا اليوم – ترفع الأعمال الدرامية مؤخرًا وخلال الموسم الدرامي لرمضان 2023 تحديدًا، سقف الجرأة في الحوار وطريقة استخدام المفردات التي يأتي بعضها محمولًا من الشارع دون تجميل أو تخفيف حدة، ما يضع المشاهد أمام مصطلحات لم تكن تنجو من مقص الرقابة قبل سنوات، يعود ذاك لتأثيرات تتعلق بالواقعية ومستواها في الطرح، ومستوى الرقابة، والغرض من “الصراحة” أو الجرأة والمباشرة، وحتى استخدام الشتيمة.
وفي مسلسل “الزند” الذي يُعرض حاليًا من بطولة تيم حسن، وإخراج سامر البرقاوي، وتأليف عمر أبو سعدة، تمر بشكل شبه يومي شتائم تعزز بمضمونها مفاهيم ذكورية، عبر استخدام الأم تحديدًا كوسيلة للشتيمة والتقليل من شأن الآخر، فالشتيمة مكوّنة من كلمتين، تبدأ الأولى بـ”ابن” وتتبعها لاحقات مختلفة من صفات وألفاظ موجهة للأم.
ورغم استخدام ما لا يقل عن ست شتائم، جاءت إحداها أكثر حدة، إلى جانب تكرار بقية الشتائم، لاقى العمل قبولًا لدى جمهور المشاهدين، مستفيدًا من اشتغال صنّاعه على الصورة والإضاءة والرؤية الإخراجية والموسيقا التصويرية، دون أن يلغي ذلك تراجعًا في أسلوب المعالجة، يبدو بوضوح بعد خروج العمل من حلقاته الخمس الأولى الافتتاحية، ليقع في مطب النسخ أو المحاكاة الواضحة، إلى جانب تقديم مشاهد دخيلة على الحكاية وخالية من أي ربط بما يتبعها من أحداث تبررها.
ظهور الشتائم أو الألفاظ الصريحة لا يعتبر وليد “الزند” في الأعمال التي تولى بطولتها تيم حسن، إذ قدّم الممثل سابقًا شخصية “جبل شيخ الجبل” عبر خمسة مواسم وفيلم سينمائي، وتضمّن العمل في موسمه الخامس شتيمة واضحة جرى التحايل لغويًا على طريقة لفظها لا أكثر، ما أتاح مرورها بهدوء.
كما أن اللهجة المستخدمة في “الزند”، والتي استُخدمت بموجبها شتائم بعضها غير متداول في الوضع الطبيعي، أتاحت تمريرها بانتقاد أقل كمًا ونوعًا.
ولا تتوقف صراحة الطرح أو الجرأة عند “الزند”، فهناك أيضًا مسلسل “للموت” في جزئه الثالث، وهو عمل مشترك “سوري- لبناني”، صنفته شبكة “نتفليكس” بجزأيه السابقين في إطار الأعمال “+18″، لوجود مشاهد عنف جنسي، وتعاطي مواد مخدرة، وأفكار تتعلق بالانتحار، في المسلسل.
كما تعتبر الشبكة “للموت” مسلسلًا ذا طابع “حميمي فاضح”، بالإشارة إلى طبيعة الملابس المستخدمة، واللغة والمشاهد الإيحائية التي لا تكاد تخلو منها حلقة في مواسم العمل.
وفي الجزء الحالي، يقدّم العمل شيئًا من الشتائم بعد “تهذيبها” اللغوي، باستخدام المصطلح الإنجليزي للشتيمة، إلى جانب استخدام مصطلحات أخرى عربية، دار بعضها على لسان الطفلة خلود، التي تؤدي دورها تالينا بو رجيلي، ابنة أخت مخرج العمل فيليب أسمر.
التورية اللغوية أيضًا بدت في العمل عبر تسخير الكلمة للغرض الجنسي، من خلال تجزئة كلمة لقسمين، لتتحول بموجب الفصل اللغوي وطريقة النطق والنظرة إلى معنى ومغزى صريح يُخرج الكلمة من نطاقها الحيادي ومعناها المجرّد.
ليست جديدة لكن مختلفة
بالعودة إلى أرشيف الأعمال الدرامية والسينمائية السورية، لا تبدو الجرأة وليدة عام أو عامين، إذ سبقها تصعيد تدريجي تعلو وتنخفض حدته من عمل إلى آخر، وعبر استخدام أكثر من طريقة لتقديم هذه الجرأة في أعمال يتزامن عرض كثير منها مع شهر رمضان، فقبل عشر سنوات، وفي رمضان 2013، عُرض لأول مرة مسلسل “سكر وسط”، وتضمّن حينها حوارًا قصيرًا بين “سعاد” (ميرنا شلفون) و”الطبيب جلال” (مصطفى سعد الدين)، حين زارته “سعاد” في العيادة واستخدمت أسلوب تشخيص المرض لتقديم إيحاء جنسي حذفته بعض المحطات التي عرضت العمل، بينما حافظت عليه أخرى.
وإذا كانت الجرأة في النص والمحتوى الدرامي بالمجمل ليست جديدة على المتلقي والمشاهد السوري، لكنها تركزت سابقًا في العروض السينمائية والمسرحية بشكل أكبر، ربما، من حضورها الدرامي، ففي عام 2010، استخدم فيلم “دمشق مع حبي” شتيمة لم تستخدمها بعد المسلسلات السورية بالوضوح الذي جاءت به حينها.
كما أن العمل الدرامي، وتحديدًا الأعمال البارزة على مستوى الإنتاج والبطولة، ذات انتشار ومتابعة أكبر، ولا سيما في رمضان الذي يعتبر موسم عرض ومنافسة في هذا الإطار، ما يعني تعريض شريحة أكبر من الجمهور لمحتوى يصبو للتحرر، ويرد صناعه على انتقاد جرأة المحتوى بأن المشاهد يتابع الأعمال الأجنبية كثيفة المحتوى الجريء، وهي “أسطوانة” يكررها ممثلون ومشاركون في أعمال من هذا النوع، عند سؤالهم في المقابلات عن محددات الضرورة الدرامية التي تجيز الجرأة في مكان ما، وتلغيها في مكان آخر.
حسب الضرورة
الممثل السوري نوار بلبل، أوضح أن استخدام الشتيمة أو جرعة أعلى من الصراحة في الدراما مرهون بالضرورة الدرامية لا الفنية، ومدى تأثير الكلمة أو السلوك إذا جاء بهذا الشكل أو ذاك.
وقال بلبل لعنب بلدي، “يجب عمل ما تقتضيه الضرورة، والفعل والحدث الدرامي، وتطور الشخصية، والضرورة تبدأ من النص المكتوب، وتصل إلى المخرج ثم إلى الممثل وفريق العمل، فإذا كانت المسألة مجرّد رش شتائم فهذا فشل”.
وانتقد الممثل الدراما السورية على اعتبار أنها لم تلامس الواقع السوري منذ بدء الثورة على الأقل، مشيرًا إلى تركيز المسلسلات على ما هو هامشي وبعيد عن جوهر المشكلة والواقع، بالإضافة إلى استخدام الجرأة كوسيلة تسويق للعمل إذا كان المضمون غائبًا.
حالة الجرأة أو “الصراحة” التي تسير الدراما في طريقها تحت ذرائع الواقعية، وملامسة الواقع دون تجميل، لا تبلغ المستوى ذاته حين يتعلق الأمر بالسلطة الحاكمة والشأن السياسي والواقع المعيشي والأمني، وتحديدًا خلال الثورة، إذ اقتصرت الأعمال من هذا النوع على طفرات قليلة لم تنجُ من اتهامات بارتباطها بأجهزة الأمن والمخابرات في سبيل “التنفيس”، رغم تواضع انتقادها وتوقفه عند سقف معيّن من الفاسدين الذين تكافحهم “السلطات العليا” الناجية حتمًا من أي نقد أو اتهام أو شكوك في الدراما.
ومن الأعمال التي رفعت نسبيًا سقف الجرأة في النقد على أكثر من مستوى، “بقعة ضوء” و”مرايا”، ويقوم كل من العملين على “اسكتشات” منفصلة لا رابط بينها يؤديها ممثلون مشهورون، ما جعل من العملين ما يشبه “مدرسة درامية” مرّ عليها كثير من نجوم الدراما السورية، وشاركوا في بطولات جماعية للوحاتها القصيرة، قبل توليهم بطولات منفردة في أعمال معاصرة.
كما يُعرض في رمضان الحالي مسلسل “ابتسم أيها الجنرال”، الذي رفع سقف الجرأة عاليًا على مستوى الفكرة على الأقل، عبر تجسيد شخصية رئيس الجمهورية، وتقديم صورة وتعريف للدكتاتور عبرها، وتناول جرائم وانتهاكات “السلطات العليا” التي عصمتها الأعمال السورية من النقد بهذه الصراحة، ما يجعل من العمل حالة وتجربة للمشاهد.
وحول العمل الذي يؤدي فيه دور “جهاد”، مهندس وشقيق رجل أعمال على صلة بـ”أنيس الرومي”، المقرّب من السلطة، يرى نوار بلبل أن مستوى الجرأة في العمل مستمد من الواقع، والنقد مبني على ما هو حاضر، دون التقليب في صفحات تاريخ قديم، على اعتبار أن مهمة الدراما هي الإمتاع أو التسلية والفائدة، فالتركيز على التسلية فقط يعني التهريج، والتركيز على الفائدة فقط يعني الإرشاد، كما أن البحث في قضايا عمرها مئات السنوات يشكّل إلهاء للمشاهد عن مشكلاته الراهنة ومسببيها بالضرورة.
تأثير عالي المستوى
تعتبر حالة التأثير متبادلة مع الشارع أو الواقع بالنسبة للدراما، فهناك تأثير في الدراما، وآخر عبرها، على اعتبار أن كثيرًا من الأعمال الاجتماعية تسعى أو تحاول تجسيد الواقع أو جزء منه، ويقتبس صنّاعها خطوط أعمالهم الدرامية من الحياة التي يعيشها الناس، لكن هذه الأعمال تؤثر بعد صناعتها وعرضها في الشارع أيضًا، وفي سلوك بعض الناس أيًا كان نوعه.
ويُعتبر الباحث الأمريكي جورج جيربنر أول من وضع نظرية “الغرس الثقافي” في أواخر ستينيات القرن الماضي، وتنص النظرية في أبسط أشكالها على أن التعرض للتلفزيون (مصدر الصورة والفيديو الوحيد ما قبل وسائل التواصل الاجتماعي) يزرع بمهارة مع مرور الوقت مفاهيم المشاهدين عن الواقع، ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، ذهب جزء من هذا التأثير لمصلحة هذه الوسائل، ما يعني أن التأثير على المتلقي هو تأثير على الثقافة العامة بالضرورة.
وحول مستوى تأثير الأعمال الدرامية، لفت الباحث الاجتماعي طلال مصطفى إلى تفاوت مستوى وعي المشاهدين، ما يعني تفاوت مستوى إدراكهم وتقبلهم للمحتوى المعروض، إذ يمكن أن يتبنى البعض ما يشاهد، ويتعامل معه كحقيقة وواقع، إلى جانب تأثر فئة من المشاهدين بصورة النجم، فيحاولون تقليد شكله والشخصية التي أداها، كون البطل لا يخطئ، وما يقوله ليس عيبًا، وفق معايير تتبناها شريحة من معجبي الشخصية.
إلى جانب ذلك، شبّه الباحث الشتائم التي يقدمها مسلسل “الزند” وطريقة تقديمها، بتلك التي يتلقاها المعتقل لدى أجهزة النظام الأمنية، أو التي تجري على الألسنة في المؤسسات العسكرية، ويسمعها المتدربون أو العناصر الجدد.
كما أبدى مصطفى تخوفًا من تحول هذه الشتائم إلى سلوك طبيعي وجانب من اللغة اليومية الطبيعية لدى الناس، فإذا تحدّث بها الناس أكثر يمكن أن تشهد تعميمًا في المستقبل، إذا كانت لا تزال محصورة في فئات معيّنة من الناس لا تمثّل مجتمعًا بحد ذاته.
وتحمل هذه المصطلحات تأثيرًا أكبر، وفق الباحث، حين تقدّم على لسان ممثل ذي قبول جماهيري واسع، يقدّم شخصية إنسان تعرّض لقهر أو ظلم، ما يولّد لدى الناس رغبة بتبرير ذنوبهم وتقبّلها كنتيجة طبيعية لما عاشوه، والتعامل معها على أنها حسنات و”ثيمات” لغوية مميزة للشخصية.