أ.د. طالب أبو شرار: اللسان العربي بين نسيان اللغة وضياع الهوية

26 ديسمبر 2022
أ.د. طالب أبو شرار: اللسان العربي بين نسيان اللغة وضياع الهوية

أ.د. طالب أبو شرار
في الثامن عشر من كانون الثاني من كل عام نحتفل باليوم العالمي للغة العربية. أجل هو اليوم العالمي للغتنا الجميلة لكن أين نحن العرب من تلك الاحتفالية؟ هل ساهمنا ونساهم في إحياء لغتنا التي قال فيها شاعر النيل حافظ إبراهيم:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
من مفارقات العصر ضياع اللغة العربية عبر كافة مراحل التعليم المدرسي والجامعي. منذ ثلاثة عقود ونيف دفعني الفضول، وليس التخصص، لإجراء دراسة مسحية تهدف الى تقييم كفاءة أساتذة إحدى كليات الجامعة. ولأنني لست متخصصا في اللغة العربية، فقد عرضت الفكرة على أستاذ في قسم اللغة العربية فراقت له الفكرة فصممنا الدراسة ووزعنا سؤالا فريدا على أعضاء الهيئة التدريسية. كان السؤال عبارة عن طلب بترجمة مقتطف علمي صيغ باللغة الإنجليزية الى اللغة العربية. قسمنا إجابات الترجمة العربية موضوعيا الى عدد من المهارات اللغوية الخاصة شملت تكامل الصياغة والإملاء والنحو وقواعد اللغة والبلاغة في التعبير. كان لدينا نحو خمس وخمسين إجابة مما مكننا من الخلوص الى نتائج ذات مصداقية. للأسف لم يوفق غالبية الزملاء بتجاوز الحد الأدنى للنجاح. كانت النتيجة صاعقة لأننا كنا نتحدث عن تعريب العلوم فإذا بنا نصطدم بحقيقة مرة هي عجز الأساتذة الجامعيين عن الكتابة السليمة بلغتهم الأم. لقد عرضنا نتائج الدراسة في مؤتمر عن تعريب العلوم في الجامعات العربية عقد في مدينة بن غازي أمام حشد من المختصين والمعنيين بلغتنا الأم فنالهم من غرابة النتيجة ما نالنا نحن الإثنين من حسرة عند تحليل نتائج البحث الاستقصائي ذاك.
ربما كان لا بد من الإشارة الى تلك الدراسة لأنني وبعد عقود تقترب من الأربعة وفي ختام عملي الأكاديمي أصبحت أتحسر على اندحار لغتنا العربية الى درك ما حلمت به في أشد كوابيسي رعبا. منذ عامين وخلال فترة الإغلاقات التي واكبت ذروة تفشي وباء كوفيد-19 كنا مضطرين للتدريس عبر تقنيات التواصل عن بعد مع طلبتنا. ولأن التواصل يستلزم التخاطب الكتابي فقد فوجئت بأن كل الطلبة، أجل كلهم، يلجؤون الى العامية للتعبير عما يودون كتابته. لقد حذرتهم من أنني لن أستقبل كتابة بالعامية لكني لم أفلح في ثنيهم عن أسلوبهم لأنهم ببساطة لا يعرفون كيف يكتبون بالعربية السليمة. الأدهى من كل ما سبق أن غالبية أولئك الطلبة لا يستطيعون الكتابة باللغة الإنجليزية أيضا. وهكذا، فقد ولجنا الى متاهة لا يعرف من هم في وضعنا كيف يخرجون منها. ولكي تكتمل المأساة، فإنني أضيف الى ضعف اللغة، أي لغة، ضعف واضح في المستوى العلمي عند مجموع الطلبة. السبب بسيط للغاية إذ كيف تتأتى رفعة علمية لمن لا يتقن لغة كي يتعلم بواسطتها. وبالمقابل، كيف تتأتى رفعة لغوية لمن ليس لديه علم؟
عند بداية المشروع الصهيوني في بلادنا، قرر رؤوس الحركة الصهيونية ضرورة إحياء ما يسمونه اللغة العبرية؟ السؤال البسيط لماذا يحيون لغة طقوس دينية لم تكن يوما لغة علم أو حضارة بل لم تكن هناك لغة طقوس واحدة تستخدمها الأقليات اليهودية في صلواتها عبر العالم. لقد أفضت المداخلات بين أولئك الصهاينة الى أن غياب لغة قومية تعني ببساطة غياب الشعور والرابط القومي. لقد أحيوا لغة مواتا تفتقر الى الآف المفردات المعاصرة فاستعاروها من لغات أوطانهم الأصلية، الألمانية والإنجليزية والفرنسية والروسية وغيرها باستثناء اللغة الأقرب الى ذلك الهشيم، اللغة العربية. في الأول من نيسان من العام 1925 أي قبل أكتر من ثلاثة وعشرين عاما على اغتصابهم فلسطين وتأسيس دولتهم هناك أنشأوا الجامعة العبرية في القدس في ظلال حراب المستعمر البريطاني وجعلوا لغة التدريس في تلك الجامعة “اللغة العبرية”.
المفارقة هنا أن لدينا لغة من أكمل اللغات التي عرفها الإنسان. أجل أكمل اللغات تعبيرا وبلاغة وحدة في المعنى وجمالا في التعبير وأضف الى ذلك ما تشاء إن كنت عارفا بمكنونات تلك اللغة. عبر تفاعلي المبكر مع زملاء في جامعات القاهرة ودمشق وبغداد وغيرها، اكتشفت جمال المفردات العلمية العربية التي ما ظننت أن من الممكن أن تجود العربية بمثلها بديلا عن مفردات انجليزية. أقول للمشككين في لغتنا العربية: تعالوا الى بعض المخطوطات العربية من عصور النهضة، إقراؤها لتكتشفوا كم هي قادرة وجميلة لغتنا. الم يصدق الإمام الشافعي عندما قال:
 نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
للأسف، لقد أفلت الزمام من بين أيدينا، نحن أساتذة الجامعات، فلم نعد قادرين على فعل يعيد الأمور الى نصابها. نحن نقف عاجزين أمام فيض من تجاوزات تفرض تحت مسميات مختلفة لا مجال للخوض في تفاصيلها لكن ملخصها يكمن في ضرورة تمرير النجاح بالجملة تحت العديد من المسوغات.
إحياء اللغة فعل استشرافي ينبع من وعي جمعي بأهمية اللغة: ألا ينصهر أبناء القومية الواحدة في شعور مشترك في لحظات عديدة في حياتهم.. الفرح والنشوة والطموح والأحلام والأحزان القومية.. هي كلها بعض من مقومات وحدة الأمم. نحن للأسف لم نعد نتذوق ابداعات الشعر العربي الرصين فلم يعد أبناؤنا يتغنون بشعر المتنبي أو أحمد ِشوقي أو بدر شاكر السياب أو عمر أبو ريشة أو أبو القاسم الشابي وغيرهم كثير. لم يعودا قادرين على تلاوة النصوص البلاغية التي كانت تشنف آذاننا ولم يعد الغناء بأبيات الشعر العربي المضمخ بعطر الحب والوجد والحنين والحكمة والوطنية طربا أصيلا بل حلت محله كلمات الغناء السوقية التي تنحط بوعينا الى الحضيض. في خمسينات وستينات القرن المنصرم، كانت أخبار محطات الإذاعة من دمشق والقاهرة وبغداد وربما غيرها ممن لم يكن بمقدور الراديو الذي نمتلكه أن يلتقط بثها أنذاك، كانت تلكم الأخبار دروسا ممتعة في اللغة. في طلبة طب القصر العيني في القاهرة، أقدم كلية طب في بلادنا العربية التي أسسها الطبيب الفرنسي كلوت بك في العام 1827 بأمر من محمد علي، كان التدريس باللغة العربية ولم يكن كل الجالسين لاستماع المحاضرات من طلبة الطب بل كان بعضهم مثقفا يواظب على الحضور ليس شغفا بالطب بل بجمال اللغة العربية التي كان يتحدث بها بعض المحاضرين. للأسف، نحن نشهد مرحلة الإنحطاط الحضاري الذي يسبق أفول الحضارات فهل ستغيب شمسنا قبل أن ندرك أنها غاربة لا محالة؟
الجامعة الأردنية