خبز الطابون في فلسطين في خمسينيات القرن الفائت

4 أكتوبر 2022
خبز الطابون في فلسطين في خمسينيات القرن الفائت

أ.د. زيدان كفافي

ذكرتني خاطرة  كتبها السيد جمال الشروف  (أبو عمرو) كيف كانت والدته رحمها الله تخصه برغيف معين من الخبز ، نسميه في قريتنا “دعبوب”وفي بلدات أخرى من فلسطين “قرصة”، حين كانت تخبز الخبز في الطابون، ويرى أن طعمه  كان مختلفاً عن بقية الأرغفة، بحادثة  حصلت معي وأنا طفل.  إذ روت والدتي رحمها الله أنها حملتني معها فجر ذات يوم وهي ذاهبة لتخبز خبزنا في الطابون، فما كان مني إلاّ وأن وضعت قدمي داخله فاحترقت بالنار…وكأن بيني وبين ساقي ثأر، إذ أن ساقي اليمنى واليسرى قد تعرضا للكسر…والحمد لله تعافيت. ويرى البعض أن “الدعبوب” هو في الأصل أن الخبّازة تخبز الأرغفة  ويتبقى في كثير من الحالات كمية صغيرة جداً من العجين لا تكفي لرغيف كامل ، وإنما لرغيف صغير جداً يسمونه “دعبوب”.

ولإلقاء الضوء على خبز الطابون في بلدتنا نوبا/ قضاء الخليل من الريف الفلسطيني  خلال خمسينيات القرن الفائت  أنقل أدناه بعضاً من المعلومات  الواردة في كتاب سيرتي الذاتية والمعنون “زمان ومكان”، والصادر عام 2018م ، وتوزعه دار الشروق بعمان.

كانت النساء في قريتنا  (نوبا)، كغيرها من القرى الفلسطينية، مسؤولة كلياً عن عملية العجين والخبيز، فهي تقوم على عجن الطحين في المعاجن ومفردها “معجنة”، وهي أواني واسعة من الفخار وكانت تُشرى من  مدينة الخليل.  وكانت المرأة تقرر  كمية الطحين الذي يجب عجنه  ليتناسب وعدد أفراد العائلة، وتزيده إن كان هناك ضيوفاً.  وبعد أن تقوم المرأة بإضافة الخميرة، والتي كانت تصنع محلياً ويدوياً، تترك العجنة حتى الصباح الباكر حتى يتخمر العجين. بعدها تؤخذ المعجنة بما فيها من عجين إلى الطابون ، وتبدأ النساء بخبزه. وكان الخبيز يتم على دفعات ، إذ لا يتسع مساحة المنطقة المخصصة  لوضع أرغفة العجين  لأكثر من أربع أرغفة (حسب قطر الرغيف، ومساحة القحف) في العادة، وكانت هذه تسمى “ملوه”. وكان  من بين الأرغفة، رغيف صغير  يسمى “دعبوب” تقدمه الأم إرضاء لإبنها المدلل، وهذا ما حصل عليه “أبا عمرو” في طفولته.

يتكون الطابون عادة من عدة أجزاء، وهي:

  1. القحف: وهو مصنوع من مادة الصلصال المخلوطة بالقش على شكل نصف دائرة وله فتحة واسعة في أعلاه تسمح للخبّاز بإدخال يده فيها بسهولة. وكان في القرية نساء خبيرات في بناء القحف.
  2. الرظف: والرظفة عبارة عن حجر صغير الحجم، وكروي الشكل “تشبه الحصمة لكنها أكبر حجما”، وتفرش على شكل طبقة يغطيها القحف. وكانت النساء في العادة تجمع هذه الحجارة المكورة من  مجرى السيل بعد جفافه. وعند إشعال النار تكتسب هذه الطبقة من الحجارة درجة حرارة عالية مما يساعد على نضوج الخبز.
  3. المقحار (بضم الميم أو كسرها): وهو عبارة عن قطعة منبسطة من الخشب بطول يتراوح بين 60 – 75 سم،  يستخدمها الخبّاز في تحريك وتقليب طبقة روث الحيوانات المشتعلة والتي تغطي القحف من جميع جوانبه. ولهذا كان أسود اللون على الدوام، وتظهر آثار حروق على طرفيه. ومن الطريف أن أهل القرية يشبهون البنت البشعة بقولهم “زي المقحار”.

أما المادة المشتعلة  “الزبل” التي كانت النسوة تشعلها فوق سطح القحف الخارجي فكانت من روث الحيوانات. وكان الفلاحون يجمعون هذا الروث ويسمونه “لطع” ويفرش فوق منطقة محددة بعيدة عن الأحياء السكنية في العادة تسمى “المِقباة”، ويبقى مفروشاً لمدة طويلة يقلب أثنائها مراراً ليجف تحت أشعة الشمس ليصبح شديد الجفاف مثل الحطب. ويخزن الزائد من الروث الجاف داخل الطابون في منطقة تسمى “الرّيسَن”. وكانت النسوة تقوم بإشعال النار في الروث الموجود فوق سطح القحف في الطابون من المساء، وتبقى النار مشتعلة حتى الصباح، أي وقت الخبيز. وكانت الواحدة تذكر الأخرى مساء: هل زبّلتِ الطابون؟ أي هل غطيت القحف بالزبل وأشعلت به النار.

ومن المؤكد أن هذا الروث لا يُدْخَلُ إلى داخل القحف، أي يكون معزول تماماً عن الخبز.  وكان لباب (لفتحة) الطابون غطاء له مقبض في بعض الأحيان يستخدم لإغلاق الفتحة بعد أن توضع الأرغفة فوق الحصى بداخله حفاظاً على درجة الحرارة العالية والتي تساعد على نضج الخبز.  وإضافة للخبيز ، استخدم الطابون في بعض الأحيان لشواء الدجاج والزغاليل والبيض والمعجنات مثل ” خبز المطبق والملاتيت والمخمرات”. وهذا النوع الأخير من الخبز “المخمرات” كان يخبز فقط بمناسلة عيدي الفطر والأضحى، ويوزع على المقابر عن أرواح الموتى.  وكان عدد الطوابين في قريتنا محدود، إذ وزعت حسب العائلات والحمائل.  

الله ما ألذك يا خبز أمي وخالتي وعمتي وأهل بلدي، كم عشقت رائحة طابونكم وخبزكم.

ملاحظة: أشكر السيد جمال محمد عبدالهادي الشروف على قرائته للنص وابداء الملاحظات عليه.