وطنا اليوم – لبست عمّان عباءتها وزهت بالشال، حال عروس فرحت بحثاً عن مساحة حب، للصباح فيها طعم ونكهة للعابرين في أزقتها.
هنالك قصص وحكايات تحتضنها من بداية السيل إلى آخر السوق، ليست باردة إنما هي كعباءة شتاء لمست الدفء من قلوب المارة والمحبين والغرباء الذين يبحثون عن كأس شاي بالنعناع وعبق لفنجان قهوة.
في ذاكرة المكان تدعى عمّان وفي كتب التاريخ تدعى قصّة إنسان. هناك في تلك الأزقة على الجدران كتبوا «أيها العابرون من هنا لا تطيلوا الغياب وعودوا فلكم سنروي القصص والأساطير وسير الأولياء».
هناك من موقف السيارات استحضر قلبك أيها الزائر وابلغ البصر أن يوثق الذكريات فالرحلة بدأت الآن بين جبلين ببيوت معلقة تسر الناظرين ككتب الفردوس تضم كل الأجناس والأفئدة. هناك طفل ينادي وقت الشتاء «ترمس.. فول بنص دينار»، وذات صيف يروي طفل آخر عطشك بعرق السوس المُثلج.
لا تنسى، فما زالت الرحلة في بدايتها ورائحة البهارات والتوابل على بعد شارعين ومنزل، هناك زامور سيارة عند المرور، ووقوف حافلة واستكانة كهل وابتسامة عامل. توليفة جميلة تدعى وسط البلد تأخذك معها لترتحل بين طرقها الضيقة وأسرارها التي لا تنتهي.
قرب «المسجد الحسيني» ومركز أمن، تنادي عليك الكتب لتتذوقها، فهناك الكتب تُقرأ وتخط الحروف عبر دور النشر.
قرب كل شيء «القلعة» تطل عليك من فوق جبل تحرس المكان لتروي لك قصة العابرين قبلك قدم المكان.
مساجد وكنائس
شوارع أخرى هناك ستعرفها وقت الغداء عند اختلاط المساجد والكنائس والرجال والنساء. هنا استحضر روحك مرة أخرى، فوسط عمان لم ينضب بعد، شوارعها طويلة لا تتعب فيها، وزاد الجسد من مطعمي هاشم وشهرزاد، ومن بعدهما وقت الحلوى «كنافة حبيبة الشهيرة» قرب المكتبة، ذاك الصحن يتمايل قطراً وكتاب يطالعك شوقاً، وصوت المارين قربك موسيقى المكان، هنا اكسير الحياة.
وقت صحوة من سطوة المكان دع بصرك يذهب قليلاً للأمام، على بعد سيدتين وعربة، تحف وقطع قديمة، ذاك المكان يناديك، هنا إرث الأجداد. لا تقلق ستشتري الكثير منها والطريق ما زال طويلاً. أمامك سيدي سوق للخضار، وآخر لبيع الطيور والحمام، وحتى «الحرامية» لهم سوق، ولكنهم يسرقون القلوب فقط ويسعدون الفقراء «بأسعار رمزية». أسواق كثيرة وأسماء جميلة، السُكر والندى والصاغة والحجاج.
عمّان أقيمت على أنقاض مدينة تسمى ربّة عمّون ثم عرفت بفيلادلفيا، وتسمى حاليًا «عمّان» اشتقاقاً من «عمّون»، حيث كانت عاصمة العمّونيين. أُنشئت المدينة على سبعة جبال وهي «جبل القصور، الجوفة، التاج، النزهة، النصر، النظيف، الأخضر»، ويعتقد أنها كانت مركزًا للمنطقة في ذلك الوقت.
وتُعد إحدى عواصم بلاد الشام الأربع وإحدى مدن الحضارات الشامية القديمة، في العصر الحديث أصبحت عاصمة لإمارة شرق الأردن وفي عام 1946 أصبحت عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية بعد استقلالها عن بريطانيا.
نائب أمين العاصمة (1976-1977)، المؤسس للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، المحامي هاني الدحلة يتحدث عن التغيرات التي حدثت في عمّان ويقول: ولدت عام 1930 وبدأت دراستي في المدرسة الابتدائية الحكومية في جبل عمان ومن ثم في المدرسة العسبلية التي تقع بالقرب من الديوان الأميري وفندق فيلادلفيا في ذلك الحين، وهو يقع قرب مكان مكاتب أمانة العاصمة السابقة.
في شارع الهاشمي حالياً، وكان في المدرسة الابتدائية خمسة صفوف فقط. وبالتالي شهدت مراحل وتغيرات كبيرة من الممكن وصفها بالنقلات النوعية، وسط البلد منذ العشرينات كانت تضم محلات تجارية للشوام والنوابلسية، أما الشركس فقد تركز عملهم على الزراعة وكانوا يبيعون القمح لسكان عمّان. كانت منطقة وسط البلد تضم محلات متخصصة بمجالات متعددة، من الأطعمة إلى الأقمشة إلى أدوات الزراعة والفلاحة، مرصوصة بجانب بعضها كما نراها الآن، أضف إلى ذلك المدارس والمقاهي.
أضاف الدحلة: هذه الآثار التي نراها الآن من المدرج الروماني وغيرها كانت موجودة منذ القدم، وهي ممتدة لحضارات مختلفة. في وسط البلد، مقابل المدرج الروماني، كان هنالك الديوان الأميري أي مقر عمل الملك المرحوم المؤسس عبدالله الأول بن الحسين الذي كان يتكون من 7 غرف، وكانت هنالك أيضاً مجموعة صغيرة من المدارس الموزعة، وكان جدي أسعد الدحلة هو شهبندر تجار النوابلسية، وكان صبري الطباع أيضاً أكبر تاجر شامي في ذلك الوقت.
وختم الدحلة قائلاً: الكهرباء وصلت وسط البلد والأسواق في الأربعينات من خلال شركة محمد علي بدير، والعائلات كانت تأخذ الماء من الينابيع القريبة من السيل إلى أن أصبحت تصل المنازل. وتتميز وسط البلد بكثرة الأسواق مثل سوق السكر والبخارية والبلابسة واليمنية وغيرها.
مزيج متجانس
أحد تجار وسط البلد، متخصص في مجال بيع الكتب والخردوات، خليل المعايطة يقول: منذ أربعين عاماً وأنا أعمل في وسط عمّان، والدي من أسس مكتبة الجاحظ وهي من أقدم المكتبات، حيث تأسست عام 1921 وكانت بدايتها في القدس، (وسط البلد هي عمّان)، وهي خليط من البداوة والفلاحين والحضارة، وميزتها أنها قادرة على جمع الناس من دول عدة، فهنالك الشركس الذين جاؤوا قبل أكثر من قرن من القوقاز، وهنالك أيضاً الشوام الذين استقروا قبل تأسيس إمارة شرق الأردن، جميعهم متآلفون مع بعضهم البعض واستطاعوا نقل طابع بلادهم أينما استقروا.
أضاف المعايطة «أبو ممدوح»: عمّان عبارة عن مدينة مقامة فوق مدن وحضارات، وكل فترة هنالك اكتشافات أثرية تثبت هذه الحقيقة وتنير طريق الباحثين عن تاريخ الأمم السابقة. التاريخ يبين أنها قائمة منذ العصر الحجري، أي 7 آلاف قبل الميلاد، وبعدها توالت الحضارات اليونانية والرومانية والعصر الإسلامي، وكان اسمها في السابق ربة عمون، ميزتها أنها توليفة جميلة مستقرة.
وبين أبو ممدوح كيف أن الازدهار حدث سريعاً في منطقة وسط البلد، وكيف أن الشركس كان لهم فضل كبير في انتعاش بناء البيوت والجسور والمدارس والتركيز على الزراعة كونهم فلاحين، ولكن في الوقت ذاته متحضرون، أما الشوام فأنعشوا الحركة التجارية، كما فعل الفلسطينيون بعد توالي هجراتهم في عامي النكبة 1948 والنكسة 1967، أما القبائل البدوية فكانت تعيش في أطراف عمّان.
وسط البلد أو عمّان القديمة مكان لقاء كل هذا الخليط، من الجبال السبعة المعروفة إضافة إلى نقطة استقطاب للسياح من الداخل والخارج لرؤية هذه المحلات التجارية القديمة المختصة في بيع الأقمشة والتحف والعطور، والمطاعم من جميع دول العالم، والتعرف إلى الحضارات المختلفة التي تحويها من سبيل الحوريات إلى جبل القلعة والمتحف الأثري إلى المدرج الروماني وغيرها من الآثار التي ما زالت تُكتشف. الملايين من السياح يمرون سنوياً لرؤية هذا التاريخ والتعمق به.
رونق خاص
ويشرح لنا عبد الحليم عليان (71 عاماً) وهو تاجر متخصص في بيع الحصر والمكانس كيف أن والده هاجر من بلدة العباسية قضاء يافا في فلسطين عام 1948 متوجهين إلى مدينة أريحا. وفي عام 1950 كان يعمل والده كتاجر في عمّان وبعد ثماني سنوات أسس محلاً تجارياً في وسط البلد، وبعد التأسيس انتقلنا كعائلة واستطعنا الاعتماد على صناعة الحصر التي كانت تشتهر بها العباسية.
يقول عليان «أبو خالد»: في السبعينات كان وسط البلد هو مركز العمل والنشاط التجاري وتوسعت الأعمال عبر الزمان، ووصولاً إلى يومنا هذا تغيرت الكثير من أوجه التجارة، وتحولت من تجارة جملة إلى شبه جملة إلى التجارة بشكل منفرد، هنالك تجارة اندثرت وبخاصة تلك المرتبطة بأدوات الزراعة والحراثة القديمة والأدوات التي لم يعد لها حاجة في وقتنا الحالي.
يضيف أبو خالد: هنالك ارتباط وثيق بين تجار وسط البلد والأشخاص الذين يزورونه بشكل مستمر، وبين الآثار الموجودة، وسط البلد يختلف عن بقية مناطق المملكة. هنالك روح للمكان تجعل له جاذبية ورونقاً خاصاً به. قبل جائحة كورونا كان السياح يأتون إلينا أفواجاً من كل بقاع العالم ويندهشون بحجم الحضارات التي مرت علينا ويتحمّسون للعودة والدراسة عن هذا الإرث العظيم.
محطات مهمة
المؤرخة والباحثة د. هند أبو الشعر تعلق قائلة: هنالك محطات كثيرة يجب تسليط الضوء عليها أي ما قبل تأسيس إمارة شرق الأردن وبعدها، قبل التأسيس أي في آخر القرن التاسع عشر شهدت عمّان قدوم عناصر من الوافدين سواء من الشركس وأيضاً الشوام (من دمشق تحديداً)، والنابلسية (من نابلس) وهذا التوافد ساعد على انتعاش التجارة التي تمركزت في وسط البلد، بالقرب من الجامع الحسيني.
أضافت أبو الشعر: في عام 1904 تم وصل خط سكة الحديد الحجازي الذي يربط بين عمّان ودمشق ومكة المكرمة، هذه السكة كان لها أثر كبير وساندت التجار الراغبين بالقدوم من دمشق إلى عمان بالتوسع ومنحتهم فرصة لتسويق تجارتهم، في تلك حدثت معارك عدة بين الجيش البريطاني والعثماني، وكان هنالك 4 آلاف جندي عثماني في عمّان.
واصلت أبو الشعر: بنهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار العثمانيين وقدوم الإنجليز، تغير مفهوم الإدارة، ونشأت الحكومة العربية الفيصلية في دمشق من عام 1918 إلى 1920، ومن ثم أصبح هنالك حكومات محلية.
في عام 1921 تأسست إمارة شرق الأردن، وبدأت عمان تشهد حركات مفاجئة في التطور في عهد المؤسس المرحوم الأمير عبدالله الأول بن الحسين، وبحسب سجلات البلدية آنذاك كان عدد سكان عمّان 18 ألفاً، ومن ثم قفز إلى 30 ألفاً وقبل النكبة الفلسطينية وصل إلى 60 ألف مواطن.
وبينت أبو الشعر أن منطقة وسط البلد «عمان» في العشرينات كان بها 15 فندقاً مثل فندق: فيلادلفيا، فيصل، فيكتوريا، وغيرها، وكان هنالك مقاه بعدد كبير أيضاً كمقهى حمدان، وأيضاً هنالك 12 طبيباً لهم عيادات مستقلة أو عبر مستشفيات مثل الطبيب جميل التوتنجي، الطبيب قاسم ملحس، وصيدليات عدة مثل عبد الرحيم جردانة، والصباغ وغيرهما. ومن اللافت أيضاً وجود حركة كثيفة للمطاعم ومحلات بيع الأقمشة.