حسام عبد الكريم
بعد أن استعرض ابنُ خلدون في مقدمة كتابه في التاريخ بعض النماذج من الأخبار العجيبة المحتوية على تفاصيل مستحيلة الحدوث وغير معقولة , وردت في بعض كتب التاريخ , قال :
” وأمثالُ ذلك كثيرة , وتمحيصُه إنما هو بمعرفة طبائع العمران وهو أحسنُ الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها, وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة . ولا يُرجعُ إلى تعديل الرواة حتى يُعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع, وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح. ولقد عدّ أهلُ النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل.
وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها, وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط.
واما الأخبارُ عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة, فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدماً عليه”
كما تكلم عن أسباب الكذب في الأخبار فقال:
ومن الأسباب المقتضية له أيضا وهي سابقة على جميع ما تقدم الجهلُ بطبائع الأحوال في العمران. فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله. فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب, وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض, وكثيراً ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثرُ عنهم”
وأنا سأترجم كلام العلامة ابن خلدون – رائد علم الاجتماع والتاريخ – الى لغة أيامنا هذه :
لا يجوز تصديق أي خبر نسمع به ما لم يكن ممكناً من الناحية العلمية أولاً . أي أن الخبر اذا كان به ما يخالفُ قوانين الطبيعة فلا يُنظرُ به من حيث المبدأ مهما كان سندُ هذا الخبر قوياً من ناحية الناقلين والرواة.
وأنا فعلاً أتحسّر عندما أقرأ هذا الكلام لابن خلدون – الذي عاش قبل حوالي 650 سنة – وأقارنه بما هو حاصل في بلادنا في أيامنا هذه. أتحسّر عندما أرى سهولة تصديق أخبار الخرافات والخوارق والاوهام بين الناس في مجتمعاتنا العربية,,,, يصدّقون بلا تفكير ولا تدبّر ولا عقل .
ولا عزاء لك يا ابن خلدون !
كاتب وباحث من الاردن