العملية القيادية عملية  تفكير إبداعية

6 أبريل 2022
العملية القيادية عملية  تفكير إبداعية

بقلم الدكتور محمود المساد

      إذا نظرنا إلى العملية القيادية كعملية إبداعية فإننا نُجيز لأنفسنا أن نفكر في العملية القيادية ككل متكامل دينامي يولد وينمو ويتطور ويتمخض عن إنجازات تعود بدورها لتلد من جديد وهكذا… هذه السلسلة هي كل ما يتشكل من أجزاء متفاعلة تختلف بسماتها وخصائصها عن سمات وخصائص الأجزاء منفصلة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى لا ينظر إلى هذه السلسلة من الأحداث والتفاعلات بتراتبية ومراحلية يحكمها منطق وتسلسل، بل الأصل في النظر إليها كعمل متكامل متفاعل تحكمه ظروف ومعطيات، وتزيد في شدة تفاعله ظروف ومتطلبات، وتسنده وتحدد درجة تميزه ظروف واشتراطات.

وبنفس الطريقة يتم النظر إلى عملية التفكير الإبداعي وأنها تمر بمراحل متعددة، تبدأ بمرحلة الإعداد (ويحصل فيها الفرد على المعرفة والمهارات وأساليب التناول وعناصر الخبرة التي تمكنه من وضع المشكلة أمامه)، وتليها مرحلة الجهد المُركّز لحل المشكلة، والتي قد يتم حلها بسرعة ويسر، كما قد يتعرض الحل لأنواع من الإحباط والتوتر والضيق، يبعدنا عمّا نسعى إليه من الأمان وحماية النفس. ويطلق على هذه المرحلة التي يصل بها الفرد إلى مواجهة العقبات والصعوبات دون إدراك الحل (مرحلة الاختمار على الرغم من أنه عندما يعود الفرد للمشكلة بعد ذلك قد يتمكن من الحل واجتياز العقبات والتوصل إلى استبصار جديد أو التقدم في العمل)، وهنا يفترض الكثير من علماء النفس أن نشاطاً لا شعورياً له أثر كبير في تيسير عملية الإبداع، قد يحدث خلال عملية الاختمار.

ومع صعوبة التوقع لما يحدث في مرحلة الحضانة (الاختمار) من عمليات عقلية (جيلفورد) وردّ ذلك إلى وجود هذا التفاعل في اللاشعور، إلا أن الأهم في التمايز بين الأفراد هو في إنجازهم هذه العمليات التي يتحدد في ضوئها قدرات الأفراد وإمكانياتهم في الإبداع.

وبعد مرحلة الاختمار التي تتميزبفعل العقل وجهده الحر المنفلت من ضوابط العقل الواعي ، تأتي غالباً مرحلة الاستبصار أو الإشراق التي يصحبها ابتهاج وتوقد وزهو بخبرة الحل الأصيل. ثم بعد ذلك تأتي مرحلة التقويم والتحقق وتصفية الاستبصار الذي توصل إليه الفرد. وقد يضيف البعض مرحلة تسمى “الإصرار والمثابرة” تلي أو ترافق عملية الاختمار.

ومهما تكن هذه المراحل التي تمر بها عملية التفكير الإبداعي فإنها عملية واحدة بالأساس. بل الأصل والأسلم أن ننظر إلهيا كعملية واحدة متكاملة بتفاعلاتها المتشابكة. وهذا ما أشار إليه “جيلفورد” حيث انتقد تقسيم عملية التفكير إلى مراحل، وقال: إن هذا مفتعل وتمثيلي للمسألة يحول دون إخضاع الفروض للاختبار . ومما لا شك فيه جدوى النظر إلى عملية التفكير الإبداعي كفعل واحد يمارسه الإنسان بكل طاقاته الجسمية والعقلية والوجدانية، دون النظر إليها كمراحل متتابعة. وفي الأصل فإننا نفينا هذه المرحلية عندما تحدثنا عنها على أنها عملية تتداخل جوانبها ومراحلها وتتمازج في وقت معين.

إن السبب الذي يقف وراء العرض السابق حول مراحل التفكير الإبداعي من جهة، والنظر إليها كعملية متكاملة تتمازج بها المراحل وتتفاعل من جهة أخرى، هو في الحقيقة جوهرخصائص العملية الإبداعية التي تحدث داخل الفرد. مع جواز إسهام أفراد آخرين بها. كما لو تحدثنا عن العملية الإبداعية كعملية شاملة ساهم فيها عدد من الأفراد. وهنا قد يبدو الحديث غريباً لكنه واقع؛ فنحن نتحدث عن علمية فردية، ونتحدث عن عملية جماعية في آن معاً؛ بمعنى أن العملية الإبداعية التي تحدث داخل الفرد الواحد قد يسهم بها آخرون، كما أن العملية الإبداعية التي تحدث لدى مجموعة من الأفراد أو في مؤسسة ما قد يتشارك في إنجازها جميعهم على الرغم من وجود قائد يوجهها ويدير عملياتها.

وربما التشارك في العملية الإبداعية أقرب للواقع وأيسر لعملية التنفيذ، إذ قد يوجد من الأفراد المبدعين “للأفكار” من يستطيع أن يخضعها للاختبار ومن لا يستطيع. ثُمّ إنه قد يُوجد من بين الأفراد من لا يستطيع إنشاء أفكار مبدعة، ولكنه يستطيع بمجرد التعرف على هذه الأفكار أن ينشئ طرقاً مبدعة لاختبارها وتنميتها، كما يوجد من الأفراد من يبرع في توصيل الأفكار للآخرين والتأثير فيهم.

وينسجم مع هذا توظيف المنهج العلمي الحديث الذي ينظر إلى العملية ككل وينتهي إلى الكل ، وفي طريقة ينظر إلى الأجزاء، لا على أنها وحدات وأطراف منفصلة قائمة بذاتها، ولكن على أنها أعضاء في الكل الدينامي التي تمثل به هذه الأعضاء أحداثاً داخل العملية الكلية، متجهة باتجاهها ومتكيفة بحسب ظروفها وليس لها كيان مستقل عن هذا التيار الذي يتضمنها، بل التيار سابق عليها وهي تستمد وجودها منه.

إن هذه التوجهات تُسوّغ المنطق الأسلم في الإدارة الفعالة للمؤسسات، ومنهجية توليد الأفكار، انطلاقاً من مقولة “علينا أن نجعل الأفراد يدركون أن توليد الأفكار هي وظيفة كل فرد” وأيضاً “ليس من الضروري أن يكون القائد ذاته أكثر الأفراد إبداعاً في الفريق، ولكن علينا كقادة أن نتحقق من طاقات توليد الأفكار الكافية للأفراد وكل الفرق”. ( المساد، الإدارة الفعالة، سلسلة الإدارة المثلى/ مكتبة لبنان ناشرون2001م. )

إن عملية ممارسة المساجلات الذهنية Brainstorming المنظمة تبدأ بتحليل المواقف وتنتهي بقائمة قصيرة من الأفكار السديدة. على أن تستمر عملية انعقاد الجلسات في كل مرحلة وأمام كل موقف لتحديد الافتراضات المطروحة واستبعاد قبول المسلمات على علاتها. وتجدر الإشارة إلى ضرورة تغيير الشخصيات والمتحاورين أو بعضهم في كل جلسة أو في كل مرحلة مع تعزيز إيمان الأفراد بقدراتهم على توليد الأفكار وطرحها للمناقشة.

وهنا تتجلى قاعدة “حفز التميز” وأن هذه القاعدة في السلوك الإداري تميز بين الإداري والقائد، حيث ينصب عمل القائد على إذكاء إدارة الأفراد في الوصول إلى التميز، من خلال تشجيعهم لإنجاز أفضلِ ما لديهم عن طريق الحفز، وأن يكون القائد مضرب المثل لهم والنموذج الذي يقلدونه في هذا الاتجاه. ومعلوم أن مفتاح الحفز هو في توصيل الأفراد إلى الإحساس بقوة الأهداف المشتركة مع الآخرين، وتنمية مشاعر الشراكة في الهدف، والخطة، والحوارات، حتى الوصول إلى النتائج، مع الضغط باتجاه توليد الرغبة لدى الجميع بالنجاح والتميز، ليس من أجل إشباع الفضول الشخصي، بل من أجل الإحساس بالتوحد مع غاية الفريق وهدفه ككل.

ومن أجل إدراك التشابك والتكامل بين العمليات التي تحدث عن تفاعل أطراف مثلث الإبداع (المبدع، العمليات المبدعة، النتاج المبدع)، بهدف فرز العملية القيادية، وما ينتج عنها في إطارها وفي جوهرها، فإن خصوصية الحفز وبُعد الدافعية يحتل مكانة بارزة. وهنا فإنني أؤكد على مقولة: “التلويح بذهب المُعزِّ مع إخفاء سيفه”. لأدلل بها من مدخل أهمية الحفز كمفهوم، وأهمية التنويع في أساليب الحفز، وضرورة معرفة القائد بالآخرين وسلوكهم وما ينفع معهم من طرق في الحفز والإثارة والتفعيل. وحقيقة يصبح الأفراد قادرين على تحقيق إنجازات مدهشة عندما يكونون تحت قيادة تقوم بتحفيزهم بالأسلوب المناسب. ولا ننسى أنه من أجل تعبئة الطاقات الداخلية لأفراد فريق العمل وبث الحماس والنشاط فيهم بفاعلية، علينا أن نكون قادة جديرين بالثقة وأن نكون قدوة لهم، نذكي فيهم الحماس والإلهام، بما نتحلى به من عدل وانفتاح وموثوقية وحكمة مع عمل متواصل بطاقة وحماس لا حدود لهما.

وتُصبح هذه العمليات أيسر وأسهل للتفاعل كلما كان فريق العمل يثق ببعضه بعضاً، وهذه تتحقق من خلال تفويض السُلطة وفتح قنوات الاتصال بين الأعضاء وقائد الفريق، وكذا تبادل الأفكار بحرية ودون قيود. كما يتم تعظيم مستويات الأداء من خلال منح الأفراد المسؤولية الكاملة عن وظائفهم وتمكينهم منها بالشكل الذي يحسِّن من نوعية الأعمال التي يؤدونها. فضلاً عن أن المدح وإعلان الاحتفاء بنجاحات الفريق له أبلغ الأثر في نفوس أعضاء الفريق، تماماً كالقرب من كل عضو في الفريق من خلال الاتصال الإيجابي المفتوح الذي يسوده الدفء والمودة.

واضح من استعراضنا السابق أن العملية القيادية هي عملية إبداعية تقوم على التفكير الإبداعي عبر مراحله المتفاعلة بتكامل واندفاع نحو هدف معين تقوم على تضافر أدوار مثلث الإبداع ( المقال السابق) وتبادل الأهمية بينها، وابتداء الفعل وقوته طيلة العملية، مع التأكيد على أهمية الإصرار والمثابرة والتركيز سواء على تحقيق الهدف بدرجة متميزة، أو على البقاء في نفس مجال العمل والتفكير وفق ما يحتاجه هذا المجال من مرونة لا تقبل التغيير أو الخروج من المجال، أو في الاهتمام بكليهما معاً.

إن التجارب العلمية والدراسات التجريبية تؤكد على بعض الأبعاد السيكولوجية المصاحبة للتفكير العلمي العقلي المركز، الذي ينصب على المشكلة وتشعباتها المحيرة وجوانبها الغامضة بغرض تجاوز عقباتها مهما تطُل المدة الزمنية للوصول إلى الحل، من مثل الشد والتوتر والجهد. وأنه يحدث في مواقف التفكير الواقعية أن تستمر أنواع الجهد والشد والتوتر إلى أن تؤدي بالموجّهات صوب تحسين الموقف وتغييره. إلا أننا نلاحظ ومن خلال الدراسات أن سلوك العبقري –رغم التوتر الناجم عن إدراك المشكلة-يكشف عن نوع من الإلحاح وراء الهدف الذي ينشده وعن شدة في السعي وراء الهدف، بطريقة قلّما تتوافر لدى عامة الأفراد، كما أنه لا يتنازل عن الهدف مهما تصادفه من عقبات. وإذا كان فعل الإبداع كأي فعل متكامل له بداية وله نهاية، فإن العبقري يظل تمسكه بالهدف قوياً ما دام هذا الفعل لم يبلغ نهايته، وهو لا يرضى –بهذه الأثناء- بهدف آخر بديل عن الهدف الأصلي، كما يحدث أحياناً للأشخاص العاديين، ومن ثم لا ينخفض توتره الناشئ عن الحاجة إلى إتمام فعل الإبداع إلا ببلوغ نهايته التي تتضمن صورة تتكامل أجزاؤها بعضها مع بعض، وتتكامل هي مع باقي أجزاء المجال.

ولا يفوتنا في غمرة الحديث عن عملية التفكير الإبداعي على مستوى الفرد أن هذه العملية تتم أيضاً على مستوى المجموعة كفريق عمل. وعندما نتحدث عن القائد كمبدع نتوقع أنه كذلك، ولكن عندما نتحدث عن العملية القيادية كعملية إبداعية ندرك تماماً أنها تتم على مستوى الفرد كما تتم على مستوى المجموعة أو المؤسسة. وحقيقة نميل إلى التفكير بها وإثارتها على أنها عملية جماعية. وهذا ما يجعلها أقرب للواقع وألصق بنظريات الإدارة والقيادة وتركيزها على القيادة الجماعية والإدارة التشاركية. وهذا يتفق مع تفاوت الأفراد في امتلاكهم للقدرات المتميزة، والسمات الشخصية الداعمة للإبداع من جهة وأن العملية القيادية تحتاج إلى هذا التنوع في القدرات والسمات من جهة أخرى. على أن يستثمرها ويُكامل بينهما قائد يعي ذلك، ويصر عليه، ويلتزم بالوصول إليه عن طريق الإقناع والرضى والثقة.

وتجدر الإشارة إلى أن العملية القيادية عملية تقوم أيضاً على تضافر مجالات ثلاثة أخرى متضمنة في أطراف مثلث الإبداع الثلاثة ومبثوثة بها، وهي المجال العقلي والمجال الوجداني القيمي والمجال الأدائي الحس حركي. أي إنها عملية عقلية تدعمها المجالات الأخرى بما يقوِّيها ويضمن استمرارها سواء بسمات وجدانية أو بمهارات خاصة ضرورية لإنجاز مثل هذه العمليات. وقد تتوافر هذه المجالات على مستوى الفرد إن اتصلت العملية الإبداعية به وحده، أو تتوافر لدى المجموعة إن كانت العملية الإبداعية على مستوى المجموعة أو المؤسسة.

إن الدافعية لدى الفرد أو تحقيقها لدى المجموعة تُبرز بوضوح درجة من التوتر أو الشد أو الجهد تُصاحب عملية التفكير المبدع، وكلما كانت حالة فقدان الاتزان (للفرد أو الجماعة) أكثر خللاً زادت درجة التوتر قوة، وزاد التركيز أو الإصرار على تحقيق الهدف وإعادة الاتزان وحل المشكلات، كما تختلف هذه الدرجة من الفرد العادي إلى المبدع أو العبقري. إذ بحالة العبقري تزيد درجة الإصرار والتركيز على بلوغ الهدف مهما يطُل الزمن، ومهما تكن العقبات، مع رفض التنازل عن الهدف أو تغييره.