وطنا اليوم – لا يزال العراق ضمن تصنيف “ما قبل الدولة”، وللانتقال إلى “الدولة” سيكون على السلطة التنفيذية امتلاك الإرادة السياسية لإحكام قبضتها على كامل السلطة والموارد، وهو أمر يبدو متعسرا قبل نزع أي سلاح خارج سلطة وزارتي الدفاع والداخلية والمؤسسات الأمنية الرسمية.
ويسعى رئيس الوزراء المكلف بإدارة المرحلة الانتقالية، مصطفى الكاظمي، إلى فرض سيطرة الدولة على القرار الأمني والعسكري والاقتصادي.
إلا أن قدرات الأجهزة الأمنية لا تزال بحاجة إلى الكثير لمواجهة المجموعات الشيعية المسلحة الحليفة لإيران عسكريا، أو تحدي هيمنتها على جزء من قرار الدولة في قطاعات شتى، بينها القطاع الاقتصادي.
ولاستعادة سلطة الدولة وتحرير قرارها السيادي، السياسي والأمني والاقتصادي، لا شك أن الكاظمي اتخذ خطوات عملية في هذا الاتجاه.
ومن أهم الخطوات التي اتخذها “بحذر”، هو اعتماد ثنائية العمل باتجاهين، أولهما قصقصة الأذرع المالية للمجموعات المسلحة غير المنضبطة، بحرمانها من عوائد مالية كبيرة كانت تجنيها من سيطرتها على معظم المنافذ الحدودية الرسمية.
أما الاتجاه الثاني فهو إجراء المزيد من التغييرات في القيادات الرئيسية، لتقويض المنظومات المحيطة ببعض القيادات التي تدين بالولاء لإيران، وليس للعراق.
كلا العاملين سيساهمان بشكل أكيد في إضعاف المجموعات غير المنضبطة، تمهيدا لتقويضها والانتهاء من تهديداتها وعبثها بأمن واستقرار البلاد.
بالإضافة إلى إعادة ثقة المجتمع الدولي بالدولة العراقية إذا تمكن الكاظمي في مراحل لاحقة من منع كامل لأي استهداف لبعثات ومصالح الدول الأجنبية.
وهو ما سيشجع الدول الأجنبية على مساعدة العراق في إعادة إعمار البنى التحتية، سواء المهترئة بمضي عقود على بعضها من دون تجديد، أو إعادة تأهيل البنى المدمرة بالحرب على تنظيم “الدولة”.
وتتمتع المجموعات المسلحة الحليفة لإيران بقدرات متقدمة تتيح لها مواجهة السياسات الساعية لتقويض نفوذها، ومواصلة الدفاع عن مكاسبها ومصالحها بعد أن أصبحت كيانات موازية للمؤسسات الأمنية والعسكرية الرسمية.
وتمتلك إيران مشروعا معلنا من شواطئ البحر المتوسط، مرورا بالعراق وسوريا وجنوبا إلى شواطئ البحر الأحمر عبر جماعة أنصار الله (الحوثي) في اليمن.
ولتحقيق هذا المشروع، اعتمدت طهران على دعم قوى محلية عسكرية وسياسية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، تتولى مهمة فتح ممرات برية آمنة لتقديم الدعم وتأمين وصول الإمدادات من إيران إلى الدول التي تتواجد فيها تلك القوى الحليفة.
ويهدف هذا المشروع الإيراني إلى إخضاع جغرافيا ممتدة من حدودها الغربية إلى شواطئ البحر المتوسط لنفوذ طهران المباشر، أو نفوذ القوى الحليفة لها.
وحقق المشروع المزيد من التقدم بعد تشكيل التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “الدولة”، في أعقاب سيطرته على مدينة الموصل شمالي العراق عام 2014.
وكانت طهران حينها تتمتع بنفوذ على ممر بري واحد عبر الأراضي العراقية وصولا إلى منفذ الوليد (مقابل منفذ التنف السوري) استخدمته بين 2011 و2013.
وبعد خسارة “داعش” منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، جميع المراكز الحضرية في العراق وسوريا، خرجت إيران بنفوذ على ثلاثة ممرات برية رسمية وممرات أخرى غير رسمية عبر محافظتي الأنبار (غرب) ونينوى (شمال) في العراق.
وللعراق أحد عشر منفذا بريا رسميا مع دول الجوار، خمسة منها مع إيران وثلاثة مع سوريا ومنفذ واحد مع كل من الكويت والأردن والسعودية.
وبجانب تلك المنافذ، توجد منافذ غير رسمية عديدة بين العراق وكل من إيران وسوريا.
وبعد حملة أطلقتها حكومة الكاظمي للسيطرة على المنافذ الحدودية الرسمية في يوليو/ تموز الماضي، أعلنت الحكومة قبل أيام وضع خطط للسيطرة على المنافذ غير الرسمية مع سوريا وإيران.
ووفقا لمسؤولين في إقليم كردستان شمالي العراق، فإن قرار الكاظمي إغلاق المعابر الحدودية “غير الرسمية” لا يسري على الإقليم، المرتبط مع إيران وتركيا بتسعة منافذ تحظى باعتراف الحكومة الاتحادية، التي أرجأت البت في كيفية إدارة هذه المنافذ لحين تسوية ملفها عبر لجان مشتركة أجرت زيارات لتقييم عمل تلك المنافذ.
وأعلنت حكومة الكاظمي أنها أصدرت توجيهاتها لقيادة العمليات المشتركة وقيادة قوات الحدود بغلق جميع المنافذ غير الرسمية ومنع دخول أي مواد مهربة، لحماية المنتج والمستهلك العراقي.
لكن مراقبين يرون أن حكومة الكاظمي تتجه لفرض سيطرتها على تلك المنافذ لتحجيم القدرات المالية للمجموعات المسلحة المسيطرة على المنافذ غير الرسمية، وتعود عليها بإيرادات مالية ضخمة تعيق سياسة الحكومة في إضعاف تلك المجموعات، تمهيدا لفرض سيطرة الدولة على السلاح خارج مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية.
ويعتمد العراق على الصادرات النفطية لتوفير ما يزيد عن 90 في المئة من إيراداته، ومن المحتمل أن تساهم إيرادات المنافذ الحدودية بعد السيطرة عليها في تنويع مصادر الإيرادات، لتمويل الموازنة العامة التي تعاني من عجز متراكم.
ويعتقد متابعون للشأن العراقي أن الكاظمي سيواجه تحديات في حال مضى قدما في تنفيذ خطته للسيطرة على المنافذ غير الرسمية.
وتفرض مجموعات شيعية مسلحة سيطرتها على معظم تلك المنافذ، التي تستفيد منها أيضا قوى سياسية مصنفة على منظومة الفساد، ولا يمكن للكاظمي تنفيذ خطته قبل إضعاف دور هذه المنظومة، تمهيدا للقضاء عليها.
ولا تزال الحكومة في مرحلة وضع الخطط، حيث لم يُسجل أي تحرك عسكري للقوات الأمنية لاستعادة سيطرتها على تلك المنافذ غير الرسمية.
وتتخوف الحكومة من احتمال اشتباك المجموعات الشيعية المسلحة مع القوات الأمنية، ما يرجح احتمال عقد تفاهمات ضمنية بين الحكومة وقيادات القوات الأمنية من جهة، وقيادات المجموعات المسلحة المسيطرة على المنافذ غير الرسمية من جهة أخرى.
وهذا هو الخيار الأفضل للحكومة والقوات الأمنية.
وتفيد تقارير أمريكية بأن القوات الأمنية العراقية حققت تطورا واضحا في قدراتها العسكرية والقتالية بعد الانتهاء من الحرب على تنظيم “الدولة”.
لذلك تمتلك حكومة الكاظمي ما يكفي من القدرات لحماية الحدود البرية، بالاعتماد على القوات الأمنية لمواجهة التهديدات الخارجية العسكرية أو الأخرى ذات الأثر على الأمن الداخلي وأمن المجتمع العراقي، مثل تهريب الأسلحة والمخدرات والبضائع.
ولا تزال المجموعات المسلحة تتلقى دعما خارجيا، وهي بالأساس تمتلك منظومة مالية مقتدرة عززتها المكاتب الاقتصادية، ومنظومة تسليحية متقدمة إلى حد ما، سواء عن طريق الدعم الإيراني أو التصنيع والتطوير الخاص بها.
وفي تجربة اعتقال قيادات من تلك المجموعات في منطقة الدورة ببغداد، تحدت المجموعات المسلحة سلطة الدولة بنزول مقاتليها إلى الشوارع بعجلات مسلحة ومحاولة اقتحام مبانٍ حكومية، بعضها داخل “المنطقة الخضراء” بالعاصمة.
هذا التحدي أثبت قدرة تلك المجموعات على إدخال العراق في فوضى أمنية خلال ساعات، وهو ما يدركه الكاظمي، الذي على ما يبدو يتبنى استراتيجيات خاصة تعتمد على خطوات بطيئة مدروسة تجنب القوات الأمنية الدخول في مواجهات مع تلك المجموعات.
ستحاول القوى السياسية الحليفة لإيران بقاء أكبر قدر من مساحة النفوذ الإيراني والتأثير في مراكز اتخاذ القرار الأمني والعسكري والسياسي، لضمان الحفاظ على هيئة الحشد الشعبي وعدم نزع أسلحتها، أو إدماج مقاتليها في القوات الأمنية.
وهذا الوضع هو جزء من سياسة إيرانية تعتمد على تعزيز قدرات ونفوذ المجموعات المسلحة الحليفة لها، المنضوية تحت قيادة الحشد، واستقلالية قرارها عن وزارتي الدفاع والداخلية، وضمان تفوقها على القوات الأمنية في التسليح والقدرات القتالية.
ولا تبدو حكومة الكاظمي بموقع يسمح لها بفرض نزع الأسلحة وتفكيك الفصائل بقرار إداري أو باستخدام القوة العسكرية.
لذلك، لا يمكن لإيران أن تتراجع عن تأمين الممرات البرية عبر الأراضي العراقية؛ لأنها عامل أساسي من عوامل ديمومة مشروعها العابر للحدود.
وستتكفل القوى الحليفة لطهران بتأمين تلك الممرات بتحدي إرادة الدولة العراقية والإصرار على عدم الانسحاب من مواقعها على الحدود العراقية- السورية في نينوى والأنبار.