استراتيجية الأمن الوطني والاعتماد الذاتي

27 ديسمبر 2021
استراتيجية الأمن الوطني والاعتماد الذاتي

الدكتور إبراهيم بدران

أكدت جائحة كورونا، التي تأثرت بها جميع دول العالم، أهمية موضوع كانت العولمة والانفتاح الدولي دحرجاه بعيداً عن الأنظار، ألا وهو: “الاعتماد على النفس أو الاعتماد الذاتي”.

وبات جليا للجميع أن متطلبات الأمن الوطني تقتضي بناء درجة مقبولة من الاعتماد الذاتي، وخاصة في الأساسيات التي لا يمكن الاستغناء عنها أو تحمل انقطاعها لأي سبب، مثل القوة الدفاعية والأمنية، والغذاء، والطاقة والماء، والدواء وغيرها.

وكان الملك عبدالله الثاني قد وجه الحكومات المتعاقبة، وخاصة في السنوات الأخيرة، للتحرك نحو الاعتماد الذاتي ليكون أساسا لسياساتها وموجها لبرامجها. وهذا يستدعي دراسة القطاعات المختلفة، ووضع رقم أو دليل لحالة الاعتماد الذاتي في كل قطاع، حتى يمكن البناء على هذه الأرقام وتحسينها سنة بعد أخرى.

لكن ذلك لم يتحقق بشكل ملموس، ولم يتم وضع برامج قطاعية في هذا الاتجاه. واستمرت الأمور كالمعتاد بالاعتماد على الاستيراد حتى وصلنا الى استيراد المياه والمشتقات النفطية وغيرها.

استيراد المياه

إن الدول المستوردة للمياه لا تتجاوز 5 دول في العالم، تأتي في مقدمتها هونغ كونغ وسنغافورة. ويعود السبب الى صغر مساحة هذين البلدين: فهونغ كونغ مساحتها 1106كم2، في حين لا تزيد مساحة سنغافورة على 724كم2 أي أقل من 1 % من مساحة الأردن.

ومع هذا فاستيرادهما الماء يأتي من الدولة الأم: حيث تستورد سنغافورة 50 % من الماء من ماليزيا التي انفصلت عنها العام 1965، في حين تستورد هونغ كونغ الماء من الصين.

وكل من الصين وماليزيا لا تحمل نوايا خبيثة تجاه البلدين، بل حريص على البلد الذي هو جزء منه.

ومع ذلك، فإن سنغافورة تغطي 25 % من احتياجاتها المائية عن طريق تحلية مياه البحر، وتعطي أهمية كبيرة للحصاد المائي كجزء من الاعتماد على النفس، على الرغم من أن اتفاقية المياه مع ماليزيا مدتها 100 عام.

تمويل المياه

لا بد من التأكيد أن المياه قطاع دولة، وأن مشاريع المياه هي “مشاريع دولة”، وليست مشروعا خاصا بوزارة معينة.

فوزارة المياه تبذل أقصى ما تستطيع لإدارة الشأن المائي، ولكن مشاريع مثل تحلية المياه أو بناء السدود والتوسع في السدود الترابية والحفائر، أو الحصاد المائي، كل هذه تشكل جزءا من مشروع الدولة في المياه.

و قد اعتاد الكثيرون، انطلاقا من عقدة الاعتماد على الغير أو الاعتماد الغيري القول: نعم… ولكننا دولة فقيرة، ولم تعد المساعدات تأتينا كما كانت في الماضي. وكأنهم يجدون في ذلك سبباً لاستمرار تحكم العقدة في إداراتنا.

ونحن نقول: هل يصعب على الدولة (ولا أقول الوزارة) تمويل مشروع مدرسة أو 10 مدارس فنتوجه للمنح والمساعدات؟ ألم تلجأ الحكومة مؤخراً الى التأجير التمويلي لبناء 6 مدارس؟

أليس التأجير التمويلي معمولا به في معظم دول العالم بدءا بالإسكان وتوسع ليشمل أنماطاً مختلفة؟ وانبثق عنه نظام البناء والتشغيل والتحويل BOT.

لقد تجاوزت ميزانية الحكومة لهذا العام ما يزيد على 10 مليارات دولار.

ألا يمكن توفير 1 % أو 2 % من هذه الميزانية لمشاريع المياه؟ فيكون لدينا سنوياً 100 أو 200 مليون دينار كافية لإنشاء محطة تحلية باستطاعة 30 مليون م.م.سنوياً؟

وخلال 5 سنوات يمكن تمويل مشروع كبير أو محطات تحلية صغيرة ومتوسطة عدة. أليس هذا هو الاعتماد الذاتي الذي يريده الملك؟.

الدول المأمونة

وتقضي قواعد الأمن الوطني أن يجري التعاون والتعاقد والاعتماد المتبادل في القطاعات والمرافق المهمة والحيوية، مع بلد صديق مأمون الجانب.

فهل الإسراع الى استيراد المياه من إسرائيل ينسجم مع دعوة الملك للاعتماد الذاتي؟ وهل استيراد الماء من إسرائيل ينطبق عليه المقاييس نفسها؟.

لقد صرحت رئيسة وكالة المعونة الأميركية USAid أن خط الماء المزمع استيراد الماء من خلاله سوف تدفع تكاليفه الولايات المتحدة الأميركية.

وهذا يؤكد ما أشرنا إليه سابقا بأن تحرك الشركة الإماراتية كان مجرد تغطية للتعليمات الأميركية بموجب استراتيجية إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي من خلال التشييك في مشاريع اقتصادية حيوية، لا يستطيع الجانب العربي المناورة خلالها، أو الإفلات منها أو الضغط على إسرائيل لأي سبب من الأسباب.

فهل إسرائيل دولة مأمونة الجانب تجاهنا وتجاه مصالحنا الوطنية والعربية والفلسطينية؟ هل يمكن الاطمئنان الى سياساتها؟ ونحن نرى كل يوم اقتحام المستوطنين للأقصى والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، إضافة الى التهويد والقتل المستمر.

هل قدمت إسرائيل ضمانات قانونية معلنة لنا وللولايات المتحدة وللمجتمع الدولي بأنها لن تستغل الحاجة الى المياه في المناورة والابتزاز السياسي؟.

هل يمكن اعتبار إسرائيل مجرد دولة عادية من دول المنطقة كما يقول البعض؟ لا تختلف عن دول عربية، ولذا يمكن أن تتعامل معها بكل ثقة واطمئنان؟ هل يمكن النظر الى إسرائيل أنها مجرد دولة جارة لنا، ونحن نبحث عن حسن الجوار؟.

إن أبسط مواطن أردني أو عربي يقول لا. إنها ليست مأمونة الجانب.

الاعتماد الغيري

لعل من أكبر المشكلات الإستراتيجية في الإدارة الرسمية لدينا وعلى مدى السنوات، “عقدة المساعدات والاستيراد” أو ما أسميناه “الاعتماد الغيري”.

في كل صغيرة وكبيرة، في بناء مدرسة أو محطة كهرباء، أو ترميم شارع، أو إجراء دراسة نتوجه راساً إلى الغير، لطلب المساعدات إما على شكل منح أو على شكل قروض أو على شكل خبراء.

وتسعى الإدارة كما تسعى الجهات المانحة إلى إدخال الشريك الأجنبي في المشروع. حتى بركة البيبسي، وهو مشروع هندسي بامتياز، ولدينا 175 ألف مهندس وعشرات الاستشاريين والمقاولين المتميزين، دخلت فيه شركة إسبانية وأخرى سعودية (مع الاحترام)، في حين أن المقاول والمهندس الأردني قادر على تنفيذ المشروع، ناهيك عن سلاح الهندسة في القوات المسلحة، قادر بما لديه من مهارات وإمكانات على تنفيذ عشرات المشاريع المشابهة.

إن عقدة الاعتماد الغيري التي تغلغلت في عقل الإدارة على شتى المستويات وانطلقت إلى المؤسسات والشركات أدت على مدى السنوات الى (6) نتائج سلبية تتناقض مع دعوة الملك للاعتماد الذاتي.

الأولى: ارتفاع المديونية بشكل متسارع سنة بعد أخرى نتيجة لاستسهال الاقتراض، حتى تعدت خدمة الدين العام مليار دينار سنوياً.

الثانية: تغييب العنصر الوطني

في التمويل من خلال المساهمات، وبالتالي تعطيل الاقتصاد الاجتماعي الذي هو أساس لنهضة الدول.

الثالثة: تغييب وطمس الكفاءات الوطنية من أفراد ومؤسسات في القطاعين العام والخاص لأن الاستيراد والمنحة والقرض تستتبعها إحالة الدراسات والعطاءات على شركات ومكاتب أجنبية ذات علاقة بالدول المانحة أو المؤسسات المقرضة.

الرابعة: تقليص الفرص أمام علمائنا في الجامعات والشركات والمكاتب المحلية لبناء المشاريع وتطوير إمكاناتها، وبالتالي إضعاف المؤسسات الوطنية.

الخامسة: إن الإفراط في الاستيراد عطل الكثير من الإمكانات الوطنية وخاصة الصناعية أو الهندسية أو اللوجستية حتى بلغت مستورداتنا أكثر من 15 مليار دينار مقابل 6 مليارات دينار صادرات، وزاد العجز التجاري على 150 %. السادسة: إن المساعدات والاستيراد المفرط لمختلف السلع والخدمات كانا وما يزالان عاملا كبيرا في ضياع عشرات الآلاف من فرص العمل، وبالتالي تفاقمت البطالة حتى وصلت إلى 25 % وهي من أعلى المعدلات في العالم.

فهل اللجوء إلى هذه العقدة أي الاعتماد الغيري أو الإفراط في طلب المنح والقروض والمساعدات والإفراط في الاستيراد ينسجم مع مقولة الملك لتأصيل وتعميق الاعتماد الذاتي؟

وهل ينسجم الاعتماد الغيري مع إتاحة الفرص للشباب التي نتحدث عنها جميعا؟ أليست الإمكانات الوطنية ورأس المال البشري الوطني هي الرافعة الأساسية للاعتماد الذاتي؟

التحييد الاقتصادي والعلمي

رغم مقولة الاعتمادات المتبادلة التي فرضتها العولمة، إلا أن أساس الأمن الوطني هو الاعتماد الذاتي، ليس بالشعارات، وإنما بإعطاء القوة الحقيقية للقطاعات الأساسية من خلال التمويل الوطني والعلم والتكنولوجيا الوطنية.

وليس سرا أن السياسة لها ضغوطها، و بالتالي فالجميع يدرك الضغوط السياسية وخاصة الأميركية. وقد يقول البعض إنه من الصعب عدم الاستجابة. نعم.. ولكن..

هناك فرق كبير بين أن نستجيب للضغوط السياسية ونحن عراة الصدر حفاة الأقدام وفي أمس الحاجة “للجزرة” التي ترافق تلك الضغوط، وبين أن نستجيب ولدينا البدائل. ولذا تقتضي الحكمة والوطنية والمهارة السياسية ألا تستهين الدولة بالأمر، وتؤخر الإدارة المشاريع حتى يعطش الناس ويجف الزرع والضرع ثم يقال سنحضر الماء لكم من الشيطان، من إسرائيل، التي حل علماؤها ومهندسوها مشكلة الماء. لا تحيدوا الخبراء والعلماء والمهندسين الأردنيين.

دعونا نبنِ ونصنع البدائل بجهودنا وإبداعات خبرائنا المحيدين وتمويل مواطنينا المنسيين. وبعد ذلك “نلعب” سياسة كما تريدون.

إن السياسة لا مستقبل لها إذا لم تكن مستندة الى قوة ذاتية حقيقية تتمثل في تطوير البدائل وفي عدم الانزلاق في مأزق اللابديل بل واللاختيار.

وهذا يمكن تحقيقه في كل شيء، إذا توقفت الإدارة عن التحييد الاقتصادي والتحييد العلمي للمجتمع الأردني.

دعوا المجتمع يشارك بالتمويل بشتى الوسائل والمساهمات والشراكات، وفي البناء وفي التنفيذ، وفي التقشف حين يستدعي الأمر، ولكن في إطار من الشفافية والثقة وحسن الإدارة.